ليلى البصري
كانت هناك فأرة صغيرة تتجول في البراري… فجأة، رأت جملاً فأُعجبت به و أحبته بجنون… و أفصحت له عما في قلبها.
بادلها الجمل حباً بحب و ظلا طيلة النهار يتبادلان عبارات العشق و الوله… إلى أن جاء الليل، و قررت الفأرة أن تصطحب معها حبيبها الجمل الى جحرها، فهي لا تستطيع العيش بدونه… راقت له الفكرة، و رافقها الى حيث مسكنها.
عند وصولهما إلى باب الجحر، اتضح للفأرة ان بيتها لن يتسع أبداً للجمل، و جلست حزينة تبكي و تنذب حظها… فبادرها مَن أحبت قائلا: لا داعي للبكاء يا صغيرتي، و خذي العبرة مما حصل: فإما أن تحبي من هو في حجم مسكنك، أو أن تتخذي مسكناً يتسع لمن أحببتِ…
حكمة صينية قيمة جداً… لكن قليلون هم من يتبعونها أو يعملون بها… كانت مشغولة بتنظيف المجلس الكبير، فقد أمرتها السيدة بذلك كما أعطت أوامرها لكل الخدم بتنظيف جميع مرافق البيت… لا أحد يعلم لماذا، و لكن السيدة على غير عادتها اليوم! استيقظت مبكراً و ذهبت مع السائق لا أحد يعلم إلى أين ثم عادت محملة بالأكياس… و الكثير من الأوامر… كانت لهجتها على غير عادتها، صارمة، و تبدو منشغلة و عصبية الى أبعد الحدود.
وقفت حليمة متسمرة في مكانها، أحست بدوارٍ شديد و هي تستمع الى مكالمة بين سيدتها و إحدى صديقاتها المقربات: … بكل تأكيد، بما أنهم وافقوا على الخطوبة، فإن خير البر عاجله ….
كم كنت أتمنى هذا اليوم ….
…….
جاسم جميل و خطيبته كذلك جميلة و بنت ناس لكن لا أخفي عليك أنني كنت قلقة و خائفة أن يرفضوا، فأنت أدرى بجاسم و غرامياته … …….
لذلك صممت على التعجيل بالزواج.
اسقط في يدها من هول الصدمة… جاسم؟؟؟؟ ابن صاحب البيت الذي تعمل فيه كخادمة منذ سنة و نصف السنة، حبيبها… الذي وثقت به و صدقته لدرجة سلمته معها نفسها…، ليسلبها أعز و أغلى ما تملك فتاة.
وعدها بالزواج حالما يكمل دراسته… و ها هو اليوم يخطب غيرها و سيعقد عليها خلال الأسابيع القليلة الآتية!!!.
تذكرت كم كانت غبية حين صدقته… و كم كانت رخيصة حين كانت تسلمه نفسها باسم الحب، فوق سطح البيت، بجانب خزان المياه، ليعاشرها معاشرة الأزواج… فقد كان أمنع مكان ليلتقيا فيه بعيداً عن ناظر أمه و الرقابة!! حاولت الإتصال به فلم تفلح…، لم يعد يرد على مكالماتها، و بدأ يتحاشاها في البيت… عادت بها الذكريات إلى ما قبل المجيء الى هنا… كانت طاهرة، لم يمسسها بشر و لم تك بغيّاً… كان عبد الرحيم، ابن الحي، موظفا حكومياَّ بسيطا، كان يحبها و كان يريدها على سنة الله و رسوله… لكنها لم تكن ترى فيه صفة واحدة من صفات فارس أحلامها المراهقة… نعم، كانت أحلام حليمة مراهقة، لكنها كانت أكبر من حليمة نفسها… أحلام أقلقت مضجعها: فهي تريد أن تكون مثل نادية، ابنة الجيران، التي منّ الله عليها بعقد عمل كمربية أطفال في السعودية، و عادت بعد أربع سنوات فقط، محملة بالهدايا… و ابتاعت شقة بالأقساط و عادت و هي تعقد العزم على شراء سيارة في المرة القادمة… تمنت لو أن لها حظاً مثل حظها، فتكون مستقلة ذاتيا و ماديا… و عبد الرحيم لن يحقق لها أيّاً من ذلك… لذلك قررت البحث بنفسها و بشتى الطرق على عقد عمل في الخليج حتا لو كان عقد مربية أو خادمة، فهي لم تنل قسطاً وافراً من التعليم.
و كان لها ما سعت إليه على يد صديقة لها تعمل لدى عائلة خليجية مستقرة في الرباط، و حصلت عبر هذه العائلة على عقد عمل لتعمل خادمة عند أسرة ميسورة، لها من المال ما شاء الله و من البنين ولد واحد: جاسم…، على أبواب التخرج، يملك من مقومات الحياة ما يجعله فرعون زمانه… لا يقف عند رغباته أحد، بل رغباته عند كل المحيطين به أوامر.
لا يعرف عن الاسلام سوى أنه ينتمي إليه… ظل يلاحقها منذ اللحظة الاولى التي رآها فيها، و كأنها لعبة جديدة جيء بها إليه من بلاد المغرب.
حاول معها بشتى الطرق، لكنها كانت أشرف من أن يغريها بهدايا أو بمال.
لم يكن يدع فرصة إلا و يحاول فيها إغواءها، و لم تفلح محاولاته، بل طلبت منه أن يبتعد عنها و إلا ستضطر إلى إخبار أمه!… هنا لعب الشيطان لعبته، فمثل عليها جاسم دور العاشق الولهان…و أنه يريدها زوجة له في الحلال، لكنه لا يستطيع ذلك في الوقت الحالي، لأن عليه إكمال دراسته أولاً.
و أقسم لها بأغلظ الأيامن أنه يحبها و أنه سيتزوجها حال تخرجه إن هي وافقت على ذلك.
ثم تركها مع إبليس لتفكر.
لم تنم حليمة تلك الليلة، باتت تداعب أحلامها التي راحت تتسع و تكبر حتى تجاوزت كل معقول، و ظنت انه من الممكن أن يلج الجمل في جحر الفأرة، و قررت أن تبادل جاسم حبا بحب.
وكذلك فعلت… أحبته بسذاجة الأنثى حين تحب، و تلغي صوت عقلها!… بل أقفلت على عقلها بسبعين قفلاً و ألقت بمفاتيحها في بحر لجّي… وسلّمت زمام أمورها لقلبها الضعيف، فصارت كالخاتم في إصبع جاسم!!!!! كانت الأسرة حريصة على تأمين مسكنها الكبير المليء بالخدم من شتى الجنسيات…، فكانت الكاميرات تنتشر في جميع أنحاء المنزل، من المدخل إلى كل جزء من اجزاء البيت مروراً بالحديقة الغناء، مكان واحد فقط لا تتواجد فيه اجهزة مراقبة: مكان خزان المياه الذي يوجد على سطح البيت، و الذي كانت حليمة تشرف و تداوم على تنظيفه و تطهيره بنفسها دون تذمر رغم حرارة الجو العالية و رغم ما يتطلبه ذلك من جهد.
فأوحى لها الشيطان أن تجعل من هذا المكان، مضجعا لها و لحبيبها بعيداً عن العيون المتجسسة… و كانا يتسللان إلى هناك متى ما طلب منها جاسم ذلك و كانت الفرصة مواتية، متناسين أنه ولو غفلت الكاميرات… عين الله لا تغفل أبداً.
فكرت حليمة ملياً، و عقدت اجتماعاً طارئاً و مطوّلاً مع إبليس شخصياً، لتكتشف أن المدعو جاسم قد غرر بها و كذب عليها و سلبها أعز ما تملك في الخفاء، ليرميها رمية الكلاب، دون حساب و لا سابق عتاب، ليتخذ من أخرى زوجة له أمام الملأ…
ثم فكرت: ما هو أعز شيء عند جاسم يا ترى؟؟؟ ابتسمت ابتسامة خبيثة فيها الكثير من نشوة الإنتصار المسبق لأوانه.
ثم بعونٍ من إبليس، قررت و خططت و نفذت، و كذلك سلبت جاسم أغلى ما يملك!!!!!….
ذهبت إلى سيدتها باكية، مدعية أن حالة والدتها الصحية جداً حرجة… في العناية المركزة بين الموت و الحياة، و أنها مضطرة للسفر علها تستطيع رؤيتها قبل أن تموت… أتقنت الدور و حبكت لعبتها جيداً، لدرجة ان سيدتها كانت ستبكي رأفة بحالها، و وعدتها بأن تحجز لها تذكرة إلى بلدها على أقرب رحلة تجد لها فيها مكانا، ففي إجازات رأس السنة، تكثر النشاطات الجوية و يصبح من الصعب جداً إيجاد مكان شاغر…و بالفعل إستطاعت السيدة، بفضل معارفها أن تجد حجزاً لحليمة في رحلة تنطلق بعد خمسة أيام.
بعد أن اطمأن بال حليمة من ناحية السفر، قررت أن تمر إلى الجزء التالي من الخطة، فأرسلت رسالة إلى جاسم تبارك له زواجه، و تخبره بأنها ليست غاضبة منه، بل تتمنى له السعادة… و أنها تريد رؤيته للمرة الأخيرة في مخبئهما السري، عند صهريج المياه، لتودعه بطريقتها الخاصة ما دامت قررت العودة من حيث أتت… و لن تراه ثانية أبداً… شعرت بنشوة الانتصار حين رد على رسالتها برسالة أخرى يخبرها فيها بأنه في أشد الشوق ليريها رجولته لآخر مرة قبل أن يفترقا للأبد…
كان موعد سفرها فجراً، فضربت له موعداً قُبيل ذهابها إلى المطار بسوَيعات… فوق… عند صهريج المياه، الذي شهد على فسقهما و فاحشتهما طوال العام و نصف العام… جاءت قبل موعدها، وجدها تنتظره مبتسمة كعادتها، كانت ذابلة، هادئة و حزينة رغم ابتسامتها الواسعة… وقفت لتستقبله فأمسك بوسطها و شدها إليه، اشتم رائحتها و قال: عذبة كعادتك… ثم طلب منها ان تتجرد من ملابسها لضيق الوقت، فسألته أن يلقي نظرة من فوق، لأنها تظن انها سمعت احدهم قادماً… و ما كاد يدير لها دبُرَه حتى باغتته بضربة بعصىً أسفل ظهره أسقطته أرضاً ثم عززت بأخرى، و هذه المرة عند أسفل الرأس باتجاه الرقبة، بدأ يتشنج لها كل جسمه، ثم أطبقت على رأسه بكيس نايلون لم تدعه حتى أجهزت على ما تبقى فيه من نفس… ثم جلست تلتقط أنفاسها قبل أن تحمل الجثة و ترمي بها داخل صهريج المياه كي تخفي معالم جريمتها… فسبحان من جعل من هذا المكان الشاهد على الفسق قبراً للفاسق… حملت حقيبتها و اصطحبها السائق إلى المطار و نشوة الإنتصار ترتسم على محياها الذي كان و لم يعد بريئاً.
رحلت و تركت وراءها صهريجا يعج بذكريات كانت في يوم من الأيام جميلة، و جثة جاسم التي بدأت في التحلل… مما أدى إلى تغير طعم الماء، الشي الذي أثار اشمئزاز و انتباه كل من في البيت، فجاؤوا بشركة صيانة لتنظيف الخزان ظنا منهم ان به جرذاً ميتا، و كانت الطامة الكبرى، فجاسم لم يكن مختفيا عند أحد أصدقائه كعادته، بل كان داخل صهريج المياه، يدفع فاتورة ما سلبه من حليمة بغير وجه حق… أعيدت حليمة إلى الكويت، ليُحكم عليها بالسجن مدى الحياة، ليضاف ملفها إلى الكثير من ملفات المغربيات في الخليج.