رغم أن الله عز و جل حرّم الظلم على نفسه و لا يرضاه أبداً بين عباده، و بيّن لنا أن الظلم ظلمات في الدنيا و الآخرة؛ فإننا صرنا نعيش في زمن غدى الظلم فيه مستسهلا، بل حرفة تُٰمتهَن و الأغلبية يتقنونها باحترافية، دون الإلتفات إلى خطورة عواقبها الحتمية… فالأكيد أن لا خداع و لا حيلة مع الله، و لا توجد أية ثغرة، و لو في حجم ثقب إبرة، في قانون المحكمة الإلاهية…
قيل لأُمَيْمَةَ هل وكلت محاميا؟ و ماذا قال لك؟ قالت: نعم، و قد قال لي: {و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين} فاتقوا دعوة المظلوم، لأن الله أقسم بعزته و جلاله لينصرنه و لو بعد حين.
كانت أُمَيْمَة شديدة الإلتصاق بوالدها، منبهرة به لدرجة أنها تمنت من كل قلبها أن يرزقها الله زوجا في مثل صفاته… رجل تقي، حنون، حكيم… و الأهم من ذلك: يخاف الله في كل حركاته و سكناته… شاء لها القدر أن تكون ابنة وحيدة بين أربعة إخوة؛ فعاشت أميرة مدللة في كنَف أبيها و حضن والدتها و إخوتها… باختصار شديد، كانت سندريلا العائلة، و كان الجميع يفتخر بأخلاقها و رجاحة عقلها…
كانت في الثانية و العشرين من عمرها، جميلة، رائعة الخَلْق و الخُلق… أنثى بكل المقاييس و كانت كغيرها من البنات تنتظر فارس الأحلام الذي سيأخذها على متن حصانه الأبيض المجنح، و يطير بها إلى الجنة الموعودة… ثم جاء الفارس فعلا… عمر، ابن الحي الذي غادر منذ أكثر من عشر سنوات إلى أمريكا من أجل استكمال دراسته في مجال الطب، عاد و ينوي الاستقرار في بلاده؛ شاب وسيم، مثقف، و وضعه الاجتماعي مُطَمْئِنً، يريدها زوجة و رفيقة درب.
فرحت أميمة كثيرا بهذا الحدث الذي طالما حلمت به و تمنته و عقدت عليه الكثير من الآمال… زُفّت إلى عمر في حفل أسطوري وسط فرحة أهلها و أهله، و طار بها إلى لندن لقضاء شهر العسل.
كانت تلاحظ ان زوجها يهتم لأمرها كثيراً، و يبدل كل ما في وسعه لإسعادها… و كانت تحمد الله كثيرا على ذلك، كانت في قمة السعادة٠٠٠
لكن دوام الحال من المحال… تغير عمر بمجرد عودتهما من شهر العسل، و كأنه شخص آخر غير الذي عرفته في لندن! صار شديد العصبية، يثور لأتفه الأسباب، ينتقدها في كل صغيرة و كبيرة، و لا يترك مناسبة إلا و يسمعها فيها أغلظ الألفاظ و الشتائم، بل حتى الضرب أحيانا… على مرأى و مسمع من أمه و إخوته الذين كانوا لا يحركون ساكنا. تحملت و عزت ذلك التغيير الجذري في سلوك زوجها إلى ضغوط العمل!… لم تخبر أحدا من أهلها بما كانت تعانيه في بيتها، من إهانات مستمرة وصلت لحد الاعتداء عليها بالحزام، و كانت كل يوم تزداد ذبولا و شحوباً، و لا تشتكي و لا تتذمر، على أمل أن يهدي الله عمر و يعود إلى سابق عهده، مثل ما عرفته في أول زواجهما.
زارتها والدتها ذات يوما فوجدتها طريحة الفراش… صممت على أخذها في الحال إلى المستشفى كي تطمئن على صحتها التي صارت في تردي واضح… ليتضح بعد الفحص أن أميمة حامل في شهرها الاول؛ كاد يغمى عليها من الفرح، فكرت كم سيفرح زوجها لهذا الخبر، و أنه حتما سيعود لرشده بمجرد أن يعلم بأنها حامل و أنه سوف يصبح أباً…
قررت ألا تخبره إلا وجها لوجه، عادت إلى البيت، جهزت عشاءً شهيا و جلست تنتظر زوجها بفارغ الصبر كي تخبره بالحدث العظيم الذي سيعيد إلى حياتهما الزوجية توازنها… انتظرت و انتظرت… حتى منتصف الليل. كانت قد بدأت تدخل في نوم لذيذ، حين سمعت صوت مفاتحه و هي تداعب قفل الباب، طارت من مكانها، استوقفته عند الممر، ثم قالت في دلال الانثى:
– ما الذي أخرك إلى هذا الوقت؟ لقد نمت و حلمت عدة مرات و أنا انتظرك….
لم يدعها تكمل، بل ثار، و أزبد، و صرخ في وجهها:
– ِلمَ أنت مستيقظة إلى هذا الوقت؟؟؟ ألم أقل لك مراراً أن لا شأن لك بي؟؟ أتأخر كما يحلو لي…
ابتسمت في وجهه، ثم زفت إليه البشرى، التي وقعت على رأسه مثل صاعقة قوم ثمود… شدها من شعرها و هو يصرخ في هستيريا واضحة:
– من قال لك أنني أريد أطفالا، أجننتِ؟ أنا لازلت في بداية حياتي، ولا أريد مسؤوليات…
ثم طفق يضربها بكل ما أوتي من قوة حتى فقدت الوعي، لتفتح عينيها في المستشفى و قد فقدت الجنين…
هرع أهلها لرؤيتها فوجدوها في حالة يرثى لها، عيناها متورمتان، و جسمها النحيل تملؤه الكدمات و كأنها قد نجت للتو من حادثة سير… آلمهم ما رأوا، و أرعبتهم التفاصيل التي قصتها عليهم أميمة، السندرلا الغالية، التي كانت تعيش في بيت أهلها أميرة متوجة، بكل ما تحمل الكلمة من معنى، و هي الآن ممدة على سرير في المستشفى من جراء ضرب مبرح…
قررت رفع دعوى طلاق للضرر، و أيدتها أسرتها على ذلك، و فعلا لجأت إلى القضاء و وضعت مشكلتها أمام القاضي معَززة قضيتها بشهادة من المستشفى الذي كانت نزيلة فيه. لتبدأ رحلة التخلص من هذا الزوج القاتل لفلدة كبده!
كانت تنتظر موعد الجلسة بفارغ الصبر، ذهبت إلى المحكمة و أملها في الله كبير، أن يخلصها من هذه الورطة التي لم تكن في الحسبان…
لم يرتبك، و لم يكن يبدو عليه الندم على ما فعل و هو يقسم اليمين أمام القاضي، بل كان واقفاً في المحكمة رافعا يده اليمنى يؤدي اليمين بكل ثقة، و كأنه يدبر لأمر ما. أقسمت قبله، أمام الله و أمام القاضي أن تقول الحق… بدأت الكلمات تتساب من فمها كقنابل مسيلة للدموع، بكت بحرقة و هي تروي معاناتها مع عمر، و كيف كان يهينها و يشتمها و يسيء معاملتها و يمد يده عليها بدون وجه حق، حتى أمام أمه و إخوانه الذين لم يكلفوا أنفسهم يوما عناء ردعه أو رده إلى الصواب، و اكتفوا بالفرجة… ثم طلبت من القاضي أن يطلقها من هذا الرجل الذي لم يراع الله في زوجته و لا في ذريته.
توجه إليه القاضي بالسؤال عن أقواله فيما نسب إليه، فقال:
– لقد خدعتني دموع التماسيح هذه قبلكم، إذ كنت لا أعرف هذه المرأة على حقيقتها… و أطلب من سيادتكم الموقرة، بما أن المدعية استشهدت بهم، و قالت أنني كنت أسيء معاملتها أمامهم و لا يحركون ساكنا، فإنني أطلب شهادة إخوتي ليدلوا بأقوالهم حول ما يعرفونه عن هذه المرأة و سلوكها السيء… بحكم الجوار، فبيتي بمحاداة بيت والداي، و مع الأسف كانوا دائما يرونها تعود إلى البيت في وقت متأخر من الليل برفقة رجال غرباء، و قد شهدوا على فجورها طيلة فترة زواجنا، و مع ذلك كانوا ينصحونني بالتأني و الصبر عليها نظراً لصغر سنها…
و في يوم الحادث المشؤوم، يوم أخبرتني عن حملها، كان حسب قولها سفاحا، و أنها هي بنفسها لا تعرف هوية الأب البيولوجي لما في بطنها، و أن ذلك لا يهمها ما دام في الوجود غبي مثلي ليحمل الشعلة… جن جنوني حينها و لم أشعر بنفسي الا و أنا أضربها بشدة… كيف لا و قد اعترفت لي بعظمة لسانها انها قد اغتالتني في شرفي… لكن لم يكن في نيتي إصابة الجنين بأي أذى.
و فعلا قام الاخوة إلى المنصة، و أقسموا اليمين ثم شهدوا على أن ما قاله عمر حق، بل قاموا بتأليف قصص أخرى و لفقوها إلى أميمة التي كانت شبه غائبة عن الوجود من الذهول و من هول ما سمعت…
رُفعت الجلسة بعد أن حدد القاضي موعدا بعد شهر لجلسة ثانية.
كانت الدنيا تدور من حولها، لحقت به عند باب المحكمة:
– يا الله، ما هذا الذي سمعته؟ حرام عليك، ألا تخاف الله؟ أبلغت بك الوقاحة إلى درجة أن تطعنني في شرفي؟
ثم نظرت إلى إخوان زوجها و أردفت:
– فلتعلم أنت و إخوانك انني لا محالة محاسبتكم أمام الله على شهادة زور رميتم بها عرضي و شرفي و أنا مُحْصَنَة… و لا أملك سوى كلمَتَيْن، خذوهما منى ثقلا عليكم إلى يوم القيامة: حسبي الله… و كفى.
ثم انصرفت مطمئنة بعد أن ألقت بقنبلة نقلت ملفها من محكمة الأرض إلى محكمة السماء.
حسبي الله و كفى، ما أعظمها من جملة، و ما أسرع وصولها إلى السماء… ما رأيت أفتك منها سلاحا و لا أأمن منها ملجأً… حينما تخرج من شخص مظلوم لا يحول بينها و بين الله حائل.
كان إخوان عمر الإثنين الذين شهدا معه ضد أميمة، أكبر منه سنا، و أكثر منه أقدمية في الزواج، كانت حياتهم مستقرة و كانوا جميعا، مع أبنائهم و زوجاتهم، يسكنون في بيت العائلة الكبير، مع والدتهم بعد أن توفي والدهم…. ما عدا عمر، الذي فضل الاستقلال عن بقية العائلة… كانوا يعيشون في استقرار و أمان و كان بينهم ارتباط شديد يحسدهم عليه الكثيرون، فهم لم يفكروا حتى في تقسيم إرث أبيهم رغم مضي تسع سنوات على وفاته كي يظلوا مجتمعين.
و بما أن الله لم يك مغيراً نعمة أنعم بها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فإنه لم يكد يمر أسبوعان على {حسبي الله… و كفى} التي نطقت بها أميمة على باب المحكمة، و قبل أن يصل موعد الجلسة الثانية، حتى حدث أمر هز كيان عائلة عمر من جذوره.
أصيبت والدته بوعكة صحية نقلت على إثرها إلى المستشفى لتلقي العلاج، و ظل أبناؤها إلى جانبها طوال النهار، لكن حالتها لم تكن تتحسن. و في المساء اتفقوا على أن يبقى واحدا منهم إلى جانبها، ما دامت إدارة المستشفى لا تسمح سوى برفيق واحد لكل مريض. و فعلا غادر الاخوة إلا كبيرهم الذي تطوع لقضاء الليلة مع والدته بعد أن استأذن من أم أولاده.
في منتصف الليل، ساءت حالة العجوز كثيرا، و كان على طبيبها أن ينقلها إلى قسم العناية المركزة لتكون تحت مراقبة طبية مستمرة، و طلب من إبنها العودة إلى المنزل كي يستريح، لأن وجوده لن يغير في الأمر شيئاً، فهي الآن بيد الله، إضافة إلى أنه لا يُسمح بدخول قسم العناية المركزة إلا للأطباء و الممرضين، و أنه سيظل على اتصال به في حالة ما إذا لا قدر الله صار لوالدته اي مضاعفات.
عاد إلى بيتهم و هو حزين… كم سيكون البيت موحشا بدون أمه، فهم لم يعتادوا على مبيتها خارج البيت… كان شارد الفكر، يكاد يسقط من فرط التعب، يقود سيارته و هو شبه نائم، لكنه استطاع رغم ذلك أن يصل بسلام. و من شدة التعب، قرر أن يركن سيارته خارج البيت، كي لا يبذل جهداً في فتح الباب الكبير، فالسائق لا محالة نائم… فتح باب البيت العتيق، و تسلل بين أشجار الحديقة يجر قدمين أنهكهما يوم طويل من الوقوف و القلق… فجأة أثار انتباهه أن نور الملحق المخصص للضيوف مضاءاً، و لم يكن عندهم نزلاء على حد علمه…. فقرر أن يستوضح الأمر و اتجه نحو الملحق، و كلما اقترب، كلما تهيأ له أنه يسمع أصوات ضحك و مزاح… استغرب الأمر و أسرع الخطى نحو الأصوات، ليتأكد له بالفعل أن الملحق ليس شاغراً، و ان هناك أشخاصا بالداخل… من يا ترى؟؟؟ !!!
مد يده نحو الباب، و فتحه ليجد زوجته بين أحضان السائق في وضع يشيب له رأس الجنين في بطن أمه… و لتدمر هذه الفضيحة… في رمشة عين، حياته الزوجية التي دامت لأزيد من عشر سنوات، و أثمرت ثلاثة من الأبناء.
قضى ليله في مركز الشرطة بدل السرير الذي كان يمني نفسه به و هو عائد إلى عشه، ليصطبح بخبر وفاة أمه التي لم تتحمل خبر الفاجعة.
و لم يكد يمضي أسبوعا واحداً على وفاة الأم، حتى اشتبك الإخوة بسبب الإرث، و لعن بعضهم بعضاً، و صاروا أعداءاً بعدما كانوا يداً واحدة و وصلت خلافاتهم إلى المحاكم و لم يعد أحدٌ منهم متفرغاً لقضية أميمة التي كانت تذهبت في المواعيد المحدد للجلسات بانتظام، بينما لم يكن يحضر أي أحد عن الطرف الآخر، فحكم القاضي لأميمة بالطلاق و بتعويض مادي لابأس به!
أما بالنسبة لعمر و إخوته، فإنهم اضطروا إلى بيع ميراث أمهم و أبيهم ليتمكنوا من تقسيمه بينهم، لعدم تمكنهم من التوصل إلى حل سلمي يرضي الجميع في مسألة القسمة… و تفرقوا بعد أن أخذ كل واحد نصيبه.
أما الأخ الأكبر، فقد أصيب بمرض نفسي و عصبي أدخله المصحة للعلاج، و اختلف أخويه على من يملك الحق في الحجر عليه نظرا لكون أبنائه قصراً…
فيما يخص الأخ الأوسط، فقد أصيب بمرض جنسي خطير اضطرت معه زوجته إلى طلب الطلاق للضرر، أما عمر، فقد استحوذت عليه واحدة من بنات الهوى، جردته من كل شيء بعد أن جعلته يدمن على المخدرات، و ينفق كل أمواله عليها.
انتهت الجلسة في أقل من سنة، و الحكم جاء من سابع سماء ممن أقسم بعزته و جلاله لينصرن أميمة و لو بعد حين.
يقول الحق سبحانه و تعالى: {{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}} البقرة ٢٨١.