هبة زووم ـ ليلى البصري
يروى أن عالماً جليلاً ذا حكمةٍ و بصيرةٍ و ذا مالٍ و جاهٍ، كان جالساً -يوماً- مع تلاميذه و مريديه، و بينما هم كذلك، إذ دخل عليهم رجلٌ غريبٌ لا يعرفه أحدٌ منهم، و لا يبدو عليه مظهرُ طلابِ العلم، و لكنه بدا للوهلة الأولى كأنه عزيزُ قومٍ أذلّتهُ الحياة!!
دخل و سلّم، و جلس حيث انتهى به المجلس، و أخذ يستمع للشيخ بأدبٍ و إنصات، و في يده قارورةُ فيها ما يشبه الماء لا تفارقه.
قطع الشيخ العالمُ حديثه، و التفت إلى الرجل الغريب، و تفرّس في وجهه، ثم سأله: ألك حاجةٌ نقضيها لك؟! أم لك سؤال فنجيبك؟!
فقال الضيف: لا هذا و لا ذاك، و إنما أنا تاجر، سمعتُ عن علمك و خُلُقك و مروءتك، فجئتُ أبيعك هذه القارورةَ التي أقسمتُ ألّا أبيعَها إلا لمن يقدّر قيمتها، و أنت -دون ريبٍ- حقيقٌ بها و جدير…
قال الشيخ: ناولنيها، فناوله إياها، فأخذ الشيخ يتأملها و يحرك رأسه إعجاباً بها، ثم التفت إلى الضيف: فقال له: بكم تبيعها؟ قال: بمئة دينار، فرد عليه الشيخ: هذا قليل عليها، سأعطيك مئةً و خمسين!!
فقال الضيف: بل مئةٌ كاملةٌ لا تزيد و لا تنقص.
فقال الشيخ لابنه: ادخل عند أمك و أحضر منها مائةَ دينار..
و فعلاً استلم الضيف المبلغ، و مضى في حال سبيله حامداً شاكراً، ثم انفضَّ المجلسُ و خرج الحاضرون، و جميعهم متعجبون من هذا الماء الذي اشتراه شيخُهم بمئة دينار!!!
دخل الشيخ إلى مخدعه للنوم، و لكنّ الفضول دعا ولده إلى فحص القارورة و معرفةِ ما فيها، حتى تأكد -بما لا يترك للشك مجالاً- أنه ماء عاديّ!!
فدخل على و الده مسرعاً مندهشاً صارخاً: يا حكيم الحكماء، لقد خدعك الغريب، فوالله ما زاد على أن باعك ماءً عادياً بمئة دينار، و لا أدري أأعجبُ من دهائه و خبثه، أم من طيبتك و تسرعك؟؟!!
فابتسم الشيخ الحكيم ضاحكاً، و قال لولده:
يا بني، لقد نظرتَ ببصرك فرأيتَه ماءً عاديّاً، أما أنا، فقد نظرتُ ببصيرتي و خبرتي فرأيتُ الرجل جاء يحمل في القارورة ماءَ وجهه الذي أبَتْ عليه عزَّةُ نفسه أن يُريقَه أمام الحاضرين بالتذلُّل والسؤال، و كانت له حاجةٌ إلى مبلغٍ يقضي به حاجته لا يريد أكثر منه. و الحمد لله الذي وفقني لإجابته و فَهْم مراده وحِفْظِ ماء وجهه أمام الحاضرين، إنّ ما دفعتُه له لقليل.
*إن استطعتَ أن تفهم حاجةَ أخيك قبل أن يتكلم بها فافعل، فذلك هو الأجملُ و الأمثل…
وما أجملَ قولَ من قال: *إذا لم تستطع أن تسمع صمْتَ أخيك، فلن تستطيع أن تسمع كلماتِه…*