دموع من الزنزانة

ليلى البصري

ليلى البصري
كان جالساً في إحدى زوايا الزنزانة، ممسكاً برأسه بين يديه، يغالب غصته… حين اقترب منه شيخ كبير… ربت على كتفه… و قال له في حنان ظاهر: أنا هنا بسبب دين عجزت عن سداده للبنك، و أنت؟ ما الذي جاء بك إلى هنا؟…

رفع إليه عينين كسرهما ظلم لم يكن في الحسبان، و حبس دمعة كادت تفضح ضعفه المستثر خلف لحية علاها شيب زاده وقاراً… ثم قال:

– أنا مظلوم، و يشهد الله أنني لم أقترف شيئا مما يتهمونني به…

– ما هي قصتك؟!!! تكلم لعلك تجد في الحديث راحة…

– سأروي لك قصتي أيها الشيخ، و يعلم الله أنني صادق في كل ما سأقول.

شاء الله أن يتوفى والدي وأنا لا أزال على مقاعد الدراسة، لتلحق به أمي في نفس السنة، تاركين و راءهم خمسة من الابناء… لا معيل و لا معين لهم سوى الله. كنت أكبرهم، و كان لا بد أن أكون المسؤول عنهم… تركت الدراسة عن مضض، و تفرغت للعمل كي أعيل إخوتي… عملت بجد و اخلاص، و كان الله في عوني فوفقني في مسعاي، و استطعت بفضله ان أوصل الأمانة التي تركها لي أبواي إلى بر الأمان… و صرت في فترة وجيزة من أكبر تجار البلد…

تخرج إخوتي، و حصلوا على وظائف مرموقة، و لم يبق منهم سوى آخر العنقود، أخي الأصغر، الذي كان لا يزال تلميذاً. اجتمعوا ذات ليلة و أتوا إلي يحثونني على الزواج… و ما زالوا كذلك حتى أقنعوني… رغم أنني كنت قد عاهدت نفسي ألا أتزوج حتى أزوج آخرهم.

قررت أن يكون عرسي، و إخوتي في يوم واحد… عرس جماعي ضمني و إياهم في فرحة سجدت معها شاكراً لله… فإخوتي قد كبروا بفضل المولى عز و جل، و صار لكلٍ منهم عشه الخاص، و لم يبق في ذمتي سوى أخي الأصغر، الذي ظل معي إلى أن أكمل دراسته و تزوج.

عشت و زوجتي حياةً هادئة، أكرمنا الله فيها بإثنى عشر من البنين و البنات، كرست حياتي لتربيتهم كما فعلت مع إخوتي من قبلهم… أكملوا تعليمهم و تزوج من تزوج،… و الحمد لله، لي من الاحفاد ثلاث.

لم أكن يوما زير نساءٍ، و لم أعاشر في حياتي سوى زوجتي، أم أولادي الإثنى عشر. كنت راضياً بحياتي، سعيداً بما أكرمني الله به، لا أشكو هماً و لا آفة… لكن دوام الحال من المحال.

ككل بيت خليجي، يوجد في بيتي عدد ليس بالقليل من الخادمات الآسيويات… حملت إحداهن سفاحاً، و ساعدها وزنها الزائد على إخفاء حملها عن الكل لمدة ثمانية أشهر. و لما افتضح أمرها، هددتها زوجتي بأن مصيرها سيكون السجن إن هي لم تفصح عن هوية الفاعل. فما كان منها إلا أن اتهمتني بالمداومة على اغتصابها كلما خلدت زوجتي إلى النوم…، و أنني قمت بتهديدها بالقتل إن هي أخبرت أحداً بذلك!!…..

جن جنون زوجتي أمام بكاء الخادمة و توسلها أن تجد لها حلاً، اتصلت بكل أبنائي و أخبرتهم عن حقيقة والدهم التي أخفاها عنهم طوال هذه السنين… ذئب بشري، مغتصب للخادمات…

ذهبتْ بعد ذلك بالخادمة إلى مخفر الشرطة حيث قامت بفتح بلاغٍ ضدي، و ها أنا الآن في زنزانتي، اشكو بثي و حزني إلى الله بعدما رفضت زوجتي و أبنائي الإستماع إلي…

تألم الشيخ كثيراً لسماع قصة هذا الرجل، و قال له: لا تبتئس و لا تحزن، فلِلّهِ حكمة في كل شيء سبحانه و تعالى… غداً بإذن الله تظهر برائتك و تتضح لك حكمة المولى وراء كل هذا، و ثق بربك الذي يقول: “و من يتّق الله يجعل له مخرجاً و يرزقه من حيث لا يحتسب”.

فوض أمره إلى الله، و سلم إليه زمام أمره، بات ليلته قائماً، يدعو الله و ينتحب… و الحسرة تملؤ قلبه، فأولاده الذين كرس حياته من أجلهم لم يكلفوا انفسهم حتى عناء الاستماع إليه، ناهيك عن زوجته التي لم يقصر في حقها يوماً… استنكر له الجميع، و استكثروا عليه حتى حق الدفاع عن نفسه! زاد حزنه لما علم من المحامي أن زوجته سترفع دعوى طلاق ضده، للضرر، إن هو لم يقم بتطليقها من تلقاء نفسه…

بعد عدة أسابيع، تم استدعاؤه من طرف الظابط الذي أخبره أن الخادمة قد أنجبت، و أن عليه أن يخضع لبعض الفحوصات الطبية التي ستحدد مدى مسؤوليته من عدمها عن حملها… كاد يطير فرحاً، فهو لم يفعل شيئاً مما نسب إليه، و ستثبت الفحوصات ذلك…

و فعلاً اثبتت الفحوصات ذلك، و أثبتت أشياء أخرى لم تكن في الحسبان… كان الظابط يبدو سعيداً جداً و هو يزف إليه البشرى التي ستنقذه حتماً من المأزق الذي وضعته فيه الخادمة الجاحدة، و التي اعترفت بالفاعل الحقيقي، بعدما واجهتها الشرطة بنتيجة الفحوصات، و الذي لم يكن سوى أحد أبناء جلدتها الذي تنصل من مسؤوليته، و فر عائداً إلى الفيلبين بمجرد أن أخبرته بحملها.

نعم، بفضل الله اظهرت الفحوصات الطبية براءته، و أظهرت كذلك حقيقة مرة قرر ألا يصدقها حتى يتأكد… فهذا هو الجنون بعينه… كيف يكون له هذا العدد من البنين و هو لا يملك حيوانات منوية أصلا؟؟

نعم، أظهرت الفحوصات أنه وُلد بعيب خلقي يمنعه من الإنجاب، فسائله المنوي لا يحتوي على أي حوين… يعني عقيم!…

ما أصعب أن يوضع الإنسان في مثل هذا الموقف!… لا يدري أيفرح ببراءته التي قضى فترة سجنه كلها، قائماً يدعو الله أن يظهرها… أم يحزن على من فنى عمره في تربيتهم، ظنا منه أنهم من صلبه، ليكتشف في الآخر أنهم…

قرر ألا يصدق هذه الفحوصات، لأنه من الجائز جداً أن يكون قد تم خلط عينته مع عينة شخص آخر، و أن هناك لبس في الموضوع. لم يخبر أحداً، و قرر السفر إلى بلاد العم سام، حيث الإخلاص و الدقة في العمل… هناك سيخبرونه حتما بالحقيقة.

جاءت فحوصات أمريكا لتؤكد ما زعمته فحوصات الكويت، فطار إلى أوربا التي أكد له أطباؤها أنه عقيم منذ ولادته…

أُسقط في يده، من أين له هذه الذرية؟ من أين أتى عامر، و سعد… و الباقي؟

كيف كان مغفلا طوال هذه المدة؟ كيف؟ كيف… و كيف؟ أسئلة عدة راحت تدور في رأسه، لا يملك الجواب عليها سوى زوجته… حرمه المصون!

اتصل بها بمجرد أن عاد من رحلته الإستكشافية، كانت مصممة على الطلاق رغم ظهور براءته، أخبرها بأنه مستعد لتحقيق رغبتها بعيداً عن جو المحاكم، إن هي أجابت على سؤال واحد، سؤال لا بد له أن يطرحه عليها وجهاً لوجه، و يذهب بعد ذلك كل حي إلى حال سبيله.

أتت في الموعد المحدد، كان قد سبقها ببضع دقائق…أعاد خلالها شريط حياته بالكامل، و لم ينتبه إلا على صوتها و هي تلقي عليه التحية. نظر إليها لوهلة و لم يرد، ثم اشار إليها بيده لتجلس. جلست مكرهة، ثم قالت:

– هاتِ ما عندك، و اختصر، فوقتي اثمن من أن أضيعه معك… و لا تَحْسَبَنّ أنك تستطيع خداعي كما خدعت الجميع. أعلم جيداً أنك نلت البراءة بفضل مالك و علاقاتك الإجتماعية، كما أعلم انه لا يوجد دخان بدون نار… و يكفيني ما أتاني منك من فضيحة أنا و أبناؤك…

– أبنائي أم أبناؤك؟… الفضيحة الكبرى هي التي ستنشرها كل الصحف الكويتية على أولى صفحاتها غداً، إن لم تخبريني بالحقيقة…

كانت نبرة صوته جادة و مخيفة ارتعدت لها فرائصها، فهي لم تتعود منه على هذه القسوة!…نظرت إليه متسائلة: عن أي حقيقة تتحدث؟

– حقيقة أبنائك… من هو أبوهم البيولوجي؟ من المؤكد أنه ليس أنا!!!

ثم مد يده إلى حقيبة يدوية كانت بحوزته، و استخرج منها ظرفاً مده إليها ثم أضاف:

– هذه شهادات من عشرة أطباء، من داخل الكويت و خارجها، تفيد بأنني عقيم… فمن أين أتيت بهذا الفيلق؟ تكلمي…

مدت يداً مرتعشة إلى كوب الماء المتواجد على الطاولة محاولة عبثا الإمساك به، علها تبل ريقها الذي جف من هول الصدمة التي نزلت على رأسها كالصاعقة… دارت بها الأرض، و لم ينطلق لسانها إلا بعد أن هزها إليه بعنف…

– أجيبي… تكلمي قبل أن أكسر ذراعك! كل ما أريده هو معرفة مع من؟ و أين و كيف و لماذا اغتيل شرفي؟ تكلمي…

بدأت الكلمات تنساب من شفتيها كنهر من العذاب، كانت تتكلم و تبكي، و كأنها بدموعها، تحاول أن تغسل خطيئتها التي ظنت ان السنين قد طمرتها. لكن هيهات، إن ربك لبالمرصاد.

كان يستمع إليها في ذهول… كاد يغمى عليه مما يسمع… فأبو الفيلق لم يكن إلا أخاه الأصغر، آخر العنقود، المراهق… الذي دأبت هي على زيارته في غرفته في الطابق الأرضي، منذ الأسبوع الأول لزواجهما… و بدأت تقص عليه كيف كانت تختلي به و تسلمه نفسها طيلة فترة اقامته معهما… في الوقت الذي كان هو يكد و يجتهد ليؤمن لهما الحياة الطيبة الكريمة…

دون أن يعقب… و لكي لا يستمع إلى المزيد، لمّ أشلاءه، و قصد سيارته لا يلوي على شيء… من يصدق أن ثلاثة أشهر كانت جديرة بقلب حياة هذا الرجل رأساً على عقب!..

طلق زوجته، و باع كل ممتلكاته، و قام بتصفية جميع حساباته في البنوك، ثم حول كل ما جمع من أموال إلى خارج الكويت… إلى وجهة لا يعلمها إلا هو، و رحل… رحل إلى حيث لا يعلم أحد… بعد أن اتضحت له حكمة الله من وراء سجنه ظلماً… تاركاً وراءه العديد من علامات الإستفهام و الإستنكار.

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد