عزالدين سعيد الأصبحي
رحل معمّر القذافي بعد اثنين وأربعين عاماً من حكمٍ تماوج بين الهوس والمجد والجنون. سقط الرجل الذي كان يمشي كطاووسٍ في صحراء يظنها ملكه الأبدي، وافتقدنا خطاباته النارية. وانتهى على أطراف سرت، مدينته التي أحبّها وربما أحبّته حتى آخر رصاصة، في ذلك اليوم الخريفي، 20 أكتوبر/تشرين الأول 2011، حين أمطره شباب الثورة، مدعومين بطيران التحالف الدولي، بنارٍ أنهت أسطورته إلى الأبد.
لكن من بين كل الطائرات التي حلّقت في سماء ليبيا، كانت واحدة كما قيل تحمل ظلّ نيكولا ساركوزي، ذاك الصديق السابق الذي جلس تحت خيمة القذافي قبل أعوام، يتبادل معه الابتسامات والوعود والصفقات، ويحلم بحكم فرنسا. وقد كان له ما أراد، فصار الرئيس السادس للجمهورية الفرنسية، لكنه كان الوحيد من بينهم الذي يغادر قصر الإليزيه إلى السجن، لا إلى قصور أخرى كسابقيه.
طاردته لعنة القذافي وأموال الشعب الليبي المنهوبة. هو نفسه الذي سمح، في كانون الأول/ ديسمبر 2007، بنصب خيمة بدوية فاخرة على بُعد خطوات من قصر الإليزيه، لتكون مقرّ العقيد القادم في عزّ الشتاء، ينشر دفء المال والدعم في أروقة باريس. ثم لم يلبث ذلك “الصديق” أن قاد حملة النهاية ضدّه بعد أعوام قليلة.
دُفن القذافي في مكانٍ مجهول، ودُفنت معه أسرار لا يعرفها إلا التراب الليبي. أسرار الخيمة الأولى — لا خيمة الإليزيه — تلك التي نُصبت في باب العزيزية بطرابلس في خريف 2005، وفيها وُلدت الصفقة الغامضة. كان ساركوزي حينها وزيراً للداخلية، يتهيّأ لاعتلاء عرش فرنسا. وتحت تلك الخيمة، في جلسةٍ بلا شهود، قيل إن اتفاقاً وُقّع بمالٍ ليبي وأحلام فرنسية، موّل الطريق إلى قصر الإليزيه، ثم انقلب إلى لعنةٍ تطارد صاحبه في كل ممر من ممرات القضاء.
مرت الأعوام وتبدلت الأدوار. سيف الإسلام القذافي، الابن الوريث لحلم الطاووس، يعيش شتاتاً لا ينتهي، وعبد الله السنوسي، صهر القذافي ورئيس مخابراته، مات في الزنازين، وشكري غانم، مسؤول أموال النفط، وُجد جثةً طافية في نهر الدانوب، وزياد تقي الدين، اللبناني الذي حمل حقائب الأموال إلى باريس لفظ أنفاسه في بيروت يوم 23 أيلول/ سبتمبر 2025، أي قبل صدور الحكم على ساركوزي بيومين فقط. هل هي الصدفة؟ أم ترتيب الصفقات؟ أم مجرّد سوء حظ؟وكأن لعنة القذافي تُحصي أسماء الشهود واحداً تلو الآخر.
أما ساركوزي، فقد أيقظت باريس صباحها الأخير على مشهدٍ لا يشبه إلا نهايات الأساطير: الرئيس الذي طالما تحدث عن “شرف فرنسا” يتلقى الحكم عليه، المؤلف من أربعمئة صفحة، بخطوة غير مسبوقة في تاريخ فرنسا الحديث، خمس سنواتٍ من السجن.
يسير الرجل الذي وصل إلى سن السبعين، بين رجال الشرطة نحو سجن “لا سانتيه”، ترافقه موسيقى النشيد الوطني، وكأن الوطن نفسه يودّعه بحذرٍ ودهشة.
ذهب الرجل إلى السجن وبعد ترف باريس وأرصفتها المشمسة، سيسمح له بساعة واحدة في اليوم يخرج منها للتشميس في ساحة خارجية وجميع من سيلتقي بهم في هذه الساحة متهمون بقضايا “تهريب مخدرات وإرهاب” وسيُسمح له بزيارتين أسبوعياً من عائلته وبثلاث مكالمات فقط في الأسبوع خاضعة للرقابة.
وسيُسمح له بجلب 3 كتب وقد قرر ساركوزي جلب رواية الكونت مونتي كريستو من جزأين والكتاب الثاني هو سيرة السيد المسيح، بينما لا يزال يفكر في الكتاب الثالث كما قيل، وسيكون مناسباً للعقاب لو جعله الكتاب الأخضر، لتبقى لعنة القذافي تطوف كظلٍّ ثقيلٍ في سماء باريس، تسأل عن الحقائق المدفونة تحت رمال الصحراء، وعن الأموال التي سالت كنفطٍ في ليلٍ بلا قمر، وعن وجوهٍ كثيرةٍ أسهمت في تحويل الثورة إلى صفقة، والصفقة إلى مأساة.
فهل تكون تلويحة ساركوزي من خلف القضبان آخر فصول الحكاية؟ أم تواصل لعنات المال الليبي المنهوب رحلتها الطويلة لتطرق أبواباً جديدة في العواصم التي ظنّت أن الذاكرة تموت؟
تعليقات الزوار