140 مليونًا في ميزانية الأحزاب.. نصفها لم يُصرف والمساءلة تلاحق الموارد “غير المبررة”
هبة زووم – محمد خطاري
كشف المجلس الأعلى للحسابات، في تقريره الصادر اليوم الثلاثاء، عن معطيات دقيقة بشأن الدعم العمومي المخصص للأحزاب السياسية برسم سنة 2023، مشيراً إلى تراجع ملحوظ في حجم الاعتمادات المصروفة، وسط استمرار اختلالات في التبرير والتصرف في الموارد، ما يطرح علامات استفهام جديدة حول نجاعة صرف المال العام في الفضاء الحزبي.
فوفق التقرير، بلغت الاعتمادات المرصودة في قانون المالية ما مجموعه 140 مليون درهم، رُصدت لتغطية مصاريف تدبير الأحزاب، وتنظيم مؤتمراتها الوطنية، فضلاً عن دعم الدراسات والأبحاث وتعزيز تمثيلية النساء.
لكن رغم هذا الغلاف المالي الكبير، لم يُصرف منه سوى 43 في المئة فقط، بما يعادل 60,38 مليون درهم، استفادت منه 17 حزباً فقط، في حين لم تتوصل 16 حزباً بأي مبلغ، بسبب عدم استيفائها لشروط قانونية محددة، لم يوضحها التقرير بدقة.
نصف الدعم ذهب.. والباقي ينتظر من يستحقه
ويشير المجلس إلى أن حصة الأسد من الدعم المصروف وجهت لتغطية مصاريف التدبير اليومي للأحزاب بنسبة قاربت 99.2%، بينما لم تُخصص سوى 0.62% لتنظيم المؤتمرات الوطنية، و0.17% فقط لتشجيع تمثيلية النساء، وهو ما يعكس اختلالاً في أولويات صرف التمويل العمومي، ويُفرغ بعض أهدافه من مضمونها، خاصة تلك المتعلقة بتمكين المرأة السياسية.
أما على مستوى الموارد الإجمالية للأحزاب، فقد بلغت تلك المصرّح بها من طرف 27 حزباً حوالي 104,97 مليون درهم، شكّلت فيها مساهمة الدولة 58%، فيما شكلت الموارد الذاتية ما نسبته 42%، أي ما يعادل 44,49 مليون درهم.
الموارد الذاتية تحت المجهر: تراجع مقلق
التقرير رصد أيضاً تراجعًا كبيرًا في الموارد الذاتية للأحزاب، بنسبة فاقت 38% مقارنة بسنة 2022، حيث انخفضت من 71,7 مليون درهم إلى 44,49 مليون درهم.
هذا الانخفاض يعزى بالأساس إلى تراجع واجبات الانخراط والمساهمات، وكذلك العائدات غير الجارية التي انخفضت بشكل حاد من 19,21 مليون درهم إلى أقل من 5 ملايين، وهو ما قد يُفسَّر إما بتقلص الدينامية الداخلية للأحزاب أو بضعف انخراط القواعد الحزبية.
ورغم وجود 27 حزبًا صرّحت بمصادر تمويلها، فإن تسعة أحزاب فقط استحوذت على ما يعادل 92% من مجموع الموارد المصرّح بها، وهو ما يُكرّس واقع الهيمنة السياسية لحفنة من الأحزاب الكبرى، ويطرح تساؤلات عن الفعالية التنظيمية لبقية التشكيلات الحزبية.
اختلالات التبرير وملاحظات المجلس
التقرير لم يغفل الإشارة إلى تجاوزات واضحة، حيث سُجِّلت ملاحظات على موارد تتجاوز 1,72 مليون درهم، تهم ثمانية أحزاب، أبرزها ما يتعلق بنقائص في تبرير الموارد بالنسبة لأربعة منها، واستخلاص مبالغ نقدًا تتجاوز السقف القانوني في خمسة أحزاب، بلغ مجموعها 865.900 درهم.
هذه التجاوزات، وإن بدت محدودة رقمياً، إلا أنها تعكس خللاً في الالتزام بضوابط الشفافية المالية، وتُعيد طرح مطلب ربط الدعم العمومي بالنجاعة، والانضباط المالي، والديمقراطية الداخلية.
أي مستقبل لتمويل حزبي أكثر عدالة وفعالية؟
هذا التقرير يعيد النقاش القديم/الجديد حول ضرورة إعادة النظر في شروط صرف الدعم العمومي، وربطه بمردودية الأحزاب الفعلية، سواء في تأطير المواطنين، أو في مساهمتها في ترسيخ الخيار الديمقراطي.
فرغم الجهود المبذولة في تقنين هذا الدعم وربطه بالشفافية، ما زالت أرقام الصرف والتبرير تُظهر تفاوتًا صارخًا بين الخطاب والممارسة. كما يُطرح سؤال وجيه: هل من المنطقي الاستمرار في دعم أحزاب لم تنجح في تنظيم مؤتمرها الوطني، ولا تملك موارد ذاتية كافية، أو حتى قاعدة منخرطين حقيقية؟
ويبقى الأمل معقودًا على تحويل تقارير المجلس الأعلى للحسابات من مجرد أدوات للتشخيص، إلى آليات للمحاسبة الفعلية، وربما شرطًا مستقبليًا لولوج الدعم العمومي، حتى لا يتحول المال السياسي إلى وسيلة بقاء، بدل أن يكون رافعة إصلاح وبناء ديمقراطي.