أعمدة خارج المراقبة.. هكذا طوى مكتب طارق حمان فضيحة الملايين المهدورة بجهة طنجة في انتظار دخول مجلس العدوي على الخط؟

هبة زووم – طنجة
في وقت لا يزال فيه سكان القرى التابعة للمديرية الجهوية لطنجة يعانون من تدني جودة الخدمات الكهربائية بسبب تهالك الأعمدة الخشبية، كشفت مهمة مراقبة ميدانية قامت بها لجنة تفتيش تابعة لهيئة مراقبة التدبير الداخلي عن خروقات واختلالات عميقة في تدبير عمليات استبدال الأعمدة المتدهورة، وصلت إلى حدود تبديد المال العام والإضرار بمصالح المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب.
التقرير، الذي حصلت “هبة زووم” على نسخة منه، يضع بالأرقام والمعطيات صورة مقلقة لتراكم الأعطاب والارتجال الإداري في تدبير هذا الملف، الذي رُصدت له اعتمادات مالية ضخمة منذ سنة 2010، قُدرت بـ156 مليون درهم، خُصص منها ما يناهز 50.2 مليون درهم فقط لاقتناء الأعمدة الخشبية، دون احتساب الرسوم.
10 آلاف عمود خارج الرقابة وأخرى متعفنة منذ 2014
بينما تتكدس الأعمدة الخشبية منذ سنوات في المستودعات، أظهر التقرير أن أزيد من 10 آلاف عمود وُجهت إلى المديرية الإقليمية بشفشاون خارج أي مسار مراقبة رسمي، في غياب وثائق التتبع وسندات التسليم المعتمدة.
الأعمدة، وفق التقرير، بعضها يعود إلى سنوات 2014 و2015 و2017، وتوجد في وضعية تدهور تام أو مخزنة بطريقة عشوائية بجانب أعمدة متآكلة، مما يعرضها للتلف أو “التلوث الفني”.
كما وقفت اللجنة على غياب الحماية الأمنية في بعض أماكن التخزين، ووجود أعمدة على جنبات الطرق في العراء، ما يجعلها عرضة للسرقة، وسط شبه غياب لأي تتبع كمي أو نوعي حقيقي لهذه المعدات العمومية.
فوضى تعاقدات وتوريدات غامضة
أخطر ما جاء في التقرير أن أعمدة خشبية وصلت مؤخراً – تحديدًا في ماي 2022 – لا تحترم المواصفات الفنية للمكتب، ومع ذلك تم توريد جزء منها وتركيبه فعليًا.
الأسوأ، أن بعض الشركات الحائزة على الصفقات تتسلم الأعمدة مباشرة من الموردين دون مرورها عبر قنوات الاستلام الإداري الرسمية، بل وبصيغة “الإعارة” التي لا يؤطرها أي إجراء قانوني أو محاسباتي، وهو ما حدث تحديدًا مع أربع شركات معروفة.
أشغال غامضة وفواتير متضخمة
لم يكن وضع تتبع الأشغال أفضل حالًا، حيث سجل التقرير غيابًا تامًا للتخطيط في استخدام الأعمدة الموجودة في المخازن، وتفضيل توريدات جديدة مصحوبة بأشغال تركيب.
كما وُثقت تفاوتات صارخة بين الكميات المسحوبة من المخازن، وتلك المفوترة، وبين الكميات المُركبة فعليًا، وفي بعض الحالات، فاقت قيمة الأعمدة الموردة بكثير المبالغ المحددة في العقود، خاصة مع شركتين محددتين.
كما تم تسجيل فوضى في إرجاع بقايا الأعمدة غير المستعملة، والمصادقة على كشوفات نهائية دون أي تحقق من مصير هذه الأعمدة، إلى جانب تنفيذ تمديدات دون علم المكتب، كما في حالة قرية أزيلا بإقليم الحسيمة.
وأمام هذه المعطيات الثقيلة، أوصى التقرير بضرورة تكليف إدارة التدقيق الداخلي بمهمة معمقة، لاستكمال التحقيق في الجوانب المالية والإدارية لهذا الملف، خاصة وأن بعض العقود المتأخرة تعود إلى سنة 2016، ولم تُستكمل أشغالها إلى اليوم، دون أي مؤشرات على المحاسبة أو تتبع المسؤوليات.
وضع اليد على المال العام بلا مساءلة
رغم هول الاختلالات المسجلة، فإن رد فعل المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب جاء صادما، حيث لم يُفعّل المسار التأديبي أو القضائي كما يقتضي حجم الانتهاكات.
وبدلًا من إحالة الملف على القضاء، اكتفى المكتب بإجراءات وصفت بـ”البهلوانية”، تمثلت في إعفاء المدير الجهوي لطنجة وتحويله إلى الدار البيضاء، وإعفاء المدير الإقليمي لشفشاون وتحويله إلى فاس، دون أن يباشر الأخير مهامه، بعدما قدم شهادات طبية.
أما التقني المسؤول عن التتبع، فقد تم تحويله إلى مدينة الرشيدية، في خطوة اعتبرها متابعون تهريبا ناعما للمسؤوليات بدل المحاسبة، و”تبييضا إداريا” لملف يكتسي طابعًا جنائيًا بامتياز، تتداخل فيه المسؤوليات المالية والإدارية والتقنية.
هل تُفتح أبواب القضاء؟ أم يطوى الملف سياسيًا؟
إن ما كشفه التقرير لا يرقى فقط إلى مستوى “سوء التدبير”، بل يتجاوزه إلى شبهات واضحة حول تبديد أموال عمومية، ووجود ثغرات خطيرة في سلاسل التوريد والمراقبة والمحاسبة، الأمر الذي يستوجب تدخلًا عاجلًا من الجهات الرقابية والنيابية وحتى القضائية.
الأسئلة التي تطرح اليوم بإلحاح تتجاوز مجرد التحقيق الإداري، لتصل إلى جدوى استمرار سياسة الإفلات من العقاب في مؤسسة عمومية استراتيجية تُموَّل من جيوب المواطنين، وتُكلف الدولة ملايير الدراهم سنويًا.
فهل سيتدخل المجلس الأعلى للحسابات؟ وهل ستتحرك النيابة العامة بناءً على خلاصات التقرير، أم أن الأعمدة ستُركن كما رُكن ملفها، ليطويه الغبار والسكوت الرسمي؟

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافق المزيد