كيف يُحَقّق العبد مَقَام التَّوَكُّل علىٰ اللّٰه؟ وماهي أنواع التَّوَكُّل؟

هبة زووم ـ ليلى البصري
قال الشيخ سليمان آلشيخ -رحمهاللّٰه-: «التَّوَكُّل علىٰ اللّٰه فريضة يجب إخلاصه للّٰه تعالىٰ لأنه من أفضل العبادات، وأعلىٰ مقامات التوحيد. بل لا يقوم به علىٰ وجه الكمال إلا خواص المؤمنين». من كتاب تَيْسير العزيز الحميد، ص: (427).

وذكر ابن القيّم – رحمه اللّٰ ه- في كتابه مدارج السالكين أن استكمال العبد لمقام التوكّل علىٰ اللّٰه تبارك وتعالىٰ يتحقق بثمانية درجات:

الدرجةالأولىٰ: معرفة الرب وصفاته، من قدرته وكفايته وقيوميته، وانتهاء الأمور إلىٰ علمه، وصدورها عن مشيئته وقدرته. وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل.

الدرجةالثانية: بذل الأسباب: فاللّٰه سبحانه قضىٰ بحصول الشيء عند حصول سببه من التوكل والدعاء، فنصب الدعاء والتوكل سببين لحصول المطلوب، وقضىٰ اللّٰه بحصوله إذا فعلا لعبد سببه، فإذا لم يأت السبب امتنع المسبب، وهذا كما قضىٰ بحصول الشبع إذا أكل والري إذاشرب، فإذا لم يفعل لم يشبع ولم يروىٰ. وقضىٰ بحصول الحج والوصول إلىٰ مكة إذا سافر وركب الطرق، فإذا جلس في بيته لم يصل إلىٰ مكة. وقضىٰ بدخول الجنة إذا أسلم وأتىٰ بالأعمال الصالحة، فإذا ترك الإسلام ولم يعمل الصالحات لم يدخلها أبداً.

فالتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويندفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منها التوكل، ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلىٰ الأسباب وقطع علاقة القلب بها فيكون حال قلبه قيامه باللّٰه لابها، وحال بدنه قيامه بها. فتتعلق جوارحه بالأسباب فتباشرها، وأما قلبه فمتعلق بمسبب الأسباب سبحانه وتعالىٰ.

الدرجةالثالثة: رسوخ القلب في مقام توحيد التوكل: فإنه لايستقيم توكلا لعبد حتىٰ يصح توحيده، فحقيقة التوكل توحيد القلب، فمادامت فيه علائق الشرك فتوكله معلول مدخول، وعلىٰ قدر تجريد التوحيد تكون صحة التوكل. فإن العبد متىٰ التفت إلىٰ غير اللّٰه أخذ ذلك الإلتفات شعبة من شعب قلبه، فنقص من توكله علىٰ اللّٰه بقدر ذهاب تلك الشعبة، ومن هنا ظن من ظن أن التوكل لا يصح إلا برفض الأسباب. وهذاحق، لكن رفضها عن القلب لا عن الجوارح، فالتوكل لا يتم إلا برفض الأسباب عن القلب وتعلق الجوارح بها، فيكون من قطعاً منها متصلاً بها، واللّٰه سبحانه أعلم.

الدرجةالرابعة: اعتماد القلب علىٰ اللّٰه واستناده إليه وسكونه إليه: بحيث لايبقىٰ فيه اضطراب من تشويش الأسباب، ولاسكون إليها، بل يخلع السكون إليها من قلبه، ويلبسه السكون إلىٰ مسببها، وعلامة هذا: أنه لايبالي بإقبالها وإدبارها ولايضطر بقلب هو يخفق عند إدبار مايحب منها، وإقبال مايكره؛ لأن اعتماده علىٰ اللّٰه وسكونه إليه واستناده إليه قد حصّنه من خوفها ورجائها فحاله حال من خرج عليه عدو عظيم لاطاقة له به، فرأىٰ حصناً مفتوحاً فأدخله ربه إليه، وأغلق عليه باب الحصن، فهو يشاهد عدوه خارج الحصن، فاضطرا بقلبه وخوفه من عدوه في هذه الحال لا مع نىٰله.

وكذلك من أعطاه ملك درهماً فسُرق منه، فقال له الملك: عندي أضعافه فلا تهتم، متىٰ جئت إليَّ أعطيتك من خزائني أضعافه، فإذا علم صحة قول الملك ووثق به واطمأن إليه، وعلم أن خزائنه مليئة بذلك؛لم يحزن علىٰ قوته.

وقد مَثّل ذلك بحال الطفل الرضيع في اعتماده وسكونه وطمأنينته بثدي أمه لايعرف غيره، وليس في قلبه التفات إلىٰ غيره، كما قال بعض العارفين: المتوكل كالطفل، لايعرف شيئاً يأوي إليه إلا ثدي أمه، كذلك المتوكل لايأوي إلا إلىٰ ربه سبحانه”.

الدرجة الخامسة: حسن الظن باللّٰه -عز وجل- : فعلىٰ قدر حسن ظن العبد بربه ورجائه له، يكون توكله عليه؛ولذلك فسر بعضهم التوكل بحسن الظن باللّٰه.
 
والتحقيق: أن حسن الظن به يدعوه إلىٰ التوكل، إذ لايتصور التوكل علىٰ من ساء ظنك به ولاالتوكل علىٰ من لاترجوه. فإذا تَيَقّن العبد أن اللّٰه يُؤيّده ويُعينه ويُسدّده توكل عليه ورجاه.

الدرجة السادسة: استسلام القلب له وانجذاب دواعيه كلها إليه وقطع منازعاته. وهذا معنىٰ قول بعضهم: التوكل إسقاط التدبير، يعني: الإستسلام لتدبير الرب لك، وهذا في غيرباب الأمر والنهي، بل في مايفعله بك لا في ما أمرك بفعله.

الدرجةالسابعة: التفويض: وهو روح التوكل ولُبه وحقيقته، وهو إلقاء أموره كلها، وإنزالها به طلباً واختياراً لا كرهاً واضطراراً، بل كتفويض الإبن العاجز الضعيف المغلوب علىٰ أمره كل أموره إلىٰ أبيه العالم بشفقته عليه ورحمته وتمام كفايته وحسن ولايته له وتدبيره له، فهو يرىٰ أن تدبير أبيه له خير من تدبيره لنفسه، وقيامه بمصالحه وتوليه لها خير من قيامه هو بمصالح نفسه وتوليه لها. فلا يجد له أصلح ولا أرفق من تفويضه أموره كلها إلىٰ أبيه، وراحته من حمل كلفها، وثقل حملها مع عجزه عنها وجهله بوجوه المصالح فيها، وعلمه بكمال علم من فوض إليه، وقدرته، وشفقته.

الدرجةالثامنة: درجة الرضا: وهي ثمرة التوكل، ومن فَسّر التوكل بها فإنما فَسّره بأَجّلِّ ثمراته وأعظم فوائده، فإنه إذا توكل حق التوكل رضي بما يفعله وكيله. وكان شيخ الإسلام – رحمهاللّٰه – يقول: “المقدور يكتنفه أمران: التوكل قبله والرضابعده، فمن توكل علىٰ اللّٰه قبل الفعل ورضي بالمُقضي له بعدالفعل فقد قام بالعبودية أو معناه”. أ. هـ.

وباستكمال هذه الدرجات الثمان استكمل العبد مقام التوكل، وثبتت قدمه فيه. وهذا معنىٰ قول بشر الحافي: يقول أحدهم: توكلت علىٰ اللّٰه، يكذب علىٰ اللّٰه، لو تَوكّل علىٰ اللّٰه لرضي بما يفعله اللّٰه به، من كتاب مدارج السالكين، ج 2 ص: (118-122). مختصر.

 قال الإمام ابن القيّم رحمه اللّٰه التَّوَكُّل على الله نَوْعَانِ:

أَحدهمَا: توكل عَلَيْهِ فِي جل بحوائج العَبْد وحظوظه الدُّنْيَوِيَّة أَو دفع مكروهات هو مصائبه الدُّنْيَوِيَّة.

وَالثَّانِي: التَّوَكُّل عَلَيْهِ فِي حُصُول مَايُحِبهُ هُوَ ويرضاه من الْإِيمَان وَالْيَقِين وَالْجهَاد والدعوة إِلَيْهِ وَبَين النَّوْعَيْنِ من الْفضل مَا لَا يُحْصِيه إِلَّا اللّٰه فَمَتَىٰ توكل عَلَيْهِ العَبْد فِي النَّوْع الثَّانِي حق توكله كَفاهُ النَّوْع الأول تَمام الْكِفَايَة، وَمَتىٰ توكل عَلَيْهِ فِي النَّوْع الأول دون الثَّانِي كَفاهُ أيضاً، لَكِن لَا يكون لَهُ عَاقِبَة المتَوَكل عَلَيْهِ فِي مَا يُحِبهُ ويرضاه فأعظم التَّوَكُّل عَلَيْهِ التَّوَكُّل فِي الْهِدَايَة وَتَجْرِيد التَّوْحِيد ومتابعة الرَّسُول -صلىٰ اللّٰه عليه وسلم – وَجِهَاد أهل الْبَاطِل فَهَذَا توكل الرُّسُل وخاصة أتباعهم. من كتاب الفوائد، ص: (86).

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافق المزيد