حين يختنق الخطاب الرسمي بحرية السؤال

محمد أمين وشن – الرباط
من علامات الإفلاس السياسي أن يتحول الناطق الرسمي باسم الحكومة من ناقلٍ للحقيقة إلى نافٍ لها، ومن شارحٍ للموقف إلى محاكمٍ للسؤال.
في المغرب اليوم، لم يعد السؤال مزعجًا فحسب، بل صار يُعامل كجريمةٍ سياسيةٍ إذا مسَّ أوهام السلطة أو ذكّرها بأن الواقع لا يُدار بالتصريحات وحدها.
الواقعة الأخيرة بين مصطفى بايتاس، الناطق الرسمي باسم الحكومة، والصحفي نوفل العواملة، ليست مجرد سوء تفاهم في ندوةٍ صحفية، بل مرآة صغيرة تعكس هشاشة الخطاب الحكومي أمام أبسط مظاهر النقد.
أن يجرؤ صحفي على طرح سؤالٍ يهمّ الرأي العام، فيُتَّهم بالتحريض أو بانحيازه لـ”جيل زيد”، فذلك يعني أن الحكومة لم تستوعب بعد أن الصحافة ليست فرعًا من ديوان أحد وزرائها، وأن السؤال ليس بيانًا معاديًا للدولة، بل هو جوهر الديمقراطية نفسها.
في لحظة انفعال لفظي، لم يهاجم بايتاس نوفل العواملة كشخص، بل هاجم رمزية الصحفي الحرّ الذي يصر على أن يسائل ويتساءل. فمن السهل أن تكون ناطقًا باسم حكومة لا تسمع، لكن من الصعب أن تتحمل صوتًا يسائل باسم الشباب الذين لم يعودوا يرون في السياسة سوى مرآةٍ للخيبة.
إن ما يخشاه الخطاب الرسمي ليس السؤال ذاته، بل إمكان تحوّله إلى وعيٍ جماعي. فحين يُطرح السؤال بجرأة، يكشف الزيف ويعرّي السلطة من احتكارها للكلام.
والصحافة حين تمارس دورها الطبيعي، تذكّر الجميع بأن الدولة ليست فوق النقد، وبأن الناطق باسم الحكومة لا يملك حق الوصاية لا على الأفكار ولا على المطالب ولا على حرية التعبير.
المفارقة أن ردّ بايتاس المتشنج جاء في وقتٍ تروّج فيه الحكومة لخطاب “الإنصات للشباب والانفتاح على الرأي الآخر”. فأيّ انفتاحٍ هذا الذي يُغلق فمه أمام صحفي يسأل، وأيّ تواصلٍ هذا الذي يضيق بسؤالٍ واحد؟
إنها حكومة تختنق بالهواء الذي تزعم أنها تُنقّيه، وحين يختنق الخطاب الرسمي بحرية السؤال، فاعلم أن الأزمة لم تعد في التواصل بل في الذهنية التي تُسيّر بها هذه الحكومة البلاد.
من يخاف الكلمة، ومن يرى في الصحفي خصمًا، إنما يعلن دون أن يدري إفلاس السياسة وانتهاء معنى الحوار.
أما نوفل العواملة، فقد أدّى دورًا نادرًا في مشهدٍ يهرب فيه كثير من الإعلاميين من قول الحقيقة. فليت الحكومة تدرك أن مواجهة السؤال ليست مواجهة ضدها، بل اختبارٌ لنضجها، وأن من لا يحتمل السؤال لا يستحق المسؤولية.
إن خنق الأسئلة لا يقتلها، بل يدفعها إلى الصمت المؤقت، إلى الغضب المكتوم في العيون التي تراقب وتفهم ولا تنسى. فالأوطان لا تنهار حين يصرخ أبناؤها، بل حين يصمت مثقفوها ويخاف صحافيوها، ويستبدل الناطقون الرسميون الكلام بالعصبية.
وحين يصبح السؤال الحرّ آخر ما تبقّى لنا من معنى في السياسة، فإن الدفاع عنه اليوم هو دفاعٌ عن الوطن نفسه؛ وطنٌ يحقّ لكلّ نوفلٍ فيه أن يسأل، وعلى من يمثل الحكومة أن يجيب — بأدبٍ ومسؤولية.

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافق المزيد