قراءة في كتاب “أبناؤنا بين الواقع والمأمول” لصاحبته الأستاذة “ربيعة احجاوة”

د.خالد أوعبو – الرباط
تأتي الكتابة في المجال التربوي على عدة أضرب، منها:
– الكتابة النظرية المثالية وقد تكون طوباوية في كثير من الأحيان، وهي كتابات الفلاسفة والحكماء؛
– الكتابة العقلانية، ككتابات ديكارت مثلا؛
– الكتابة التوفيقية بين العقلانية والتجريبية كما عند كانط؛
– الكتابة النظرية الواقعية بمعنى أنها تنبثق من الواقع أو تسعى للاتقاء به، ونجدها عند كثير المنظرين التربويين، خاصة في الفترة الحديثة والمعاصرة؛
– الكتابة الجامعة بين النظري والتجريبي، وهي أشهرها: وهي الكتابات التي أحدثت طفرة في المجال التربوي فأدت إلى ظهور أشهر المقاربات والبيداغوجيات في العصر الحديث؛
وإذا أردنا توطين الكتاب الذي بين أيدينا، فيمكن القول عموما إنه يتصل بالمجال الرابع في شقه المتعلق بالواقعية والخامس في شقه التجريبي.
وهذه بعض تفاصيل ذلك:
أولا: من حيث الموضوع
يتناول الكتاب الذي عنونته صاحبته بـ: “أبناؤنا بين الواقع والمأمول”، موضوعا مركزيا في سوسيولوجيا التربية، وهو أهمية المهارات الحياتية في ترسيخ قيم المواطنة الإيجابية، ودور مؤسسات التنشئة الاجتماعية في ذلك. على اعتبار أن التربية على المواطنة في جوهرها هي نمط من أنماط التنشئة بمفهومها السيكولوجي، والتي تهدف تعديل السلوك، وهذا الأخير يعكس رغبات واستعدادات وميولات الأفراد، أو بمفهومها السوسيولوجي، والتي تهدف إدخال ثقافة المجتمع في بناء شخصية الأفراد وفي تشكيل سلوكهم وتكوين المعايير والقيم والاتجاهات والمهارات لديهم، حتى تتناسب ودورَهم الاجتماعي، وهي على حد تعبير إيميل دوركايم “عملية تحويل الكائن البيولوجي إلى كائن اجتماعي”.
وقد اختارت الكاتبة في بحثها خمسا من مؤسسات التنشئة الاجتماعية، وبينت دورها في تعزيز قيم المواطنة، مركزة على أهمية تكامل أدوار هذه المؤسسات وتظافر جهودها، جاعلة لذلك شعار: كلنا متدخلون.
هذه المؤسسات هي:
– الأسرة: والتي تعد النواة الأساسية في الحلقة الاجتماعية، والبيئة الأولى لتنشئة الطفل، والتي يتزود خلالها أهم أسس التربية، كونها أول مؤسسة يتشرب منها الطفل قيمه ومبادئه ومرتكزات سلوكه، وهي أهم مصدر لتكوين الشخصية وترسيخ قيم الانتماء للجماعة.
– المدرسة: باعتبارها حلقة مكملة للتربية الأسرية، وحلقة وصل مهمة بين البيت والمجتمع، ولدورها البارز في تنمية الفرد وتثقيفه وتنشئته سياسيا واجتماعيا، وتعد الأفراد للقيام بمسؤولياتهم في حفظ المجتمع وتقدمه والعمل على تطبيعهم بأخلاقيات المجتمع وعاداته وقيمه.
– وسائل الإعلام: باعتباره القوة الناعمة التي تشكل وعي الأفراد والشعوب، وأداة قوية وفعالة في توجيه السلوك.
– مؤسسات المجتمع المدني: كالجمعيات بمختلف نشاطاتها والأحزاب بمختلف توجهاتها، وغيرها من المؤسسات الفاعلة والمؤثرة على سلوك الفرد، باعتبار هذه المؤسسات تشتغل في قلب المجتمع.
– الشارع: كما وصفتها الكاتبة، وتقصد بذلك البنية المادية للفضاءات العمومية، لما لها من تأثير إيجابي على نفسية الأفراد وسلوكاتهم.
واختارت الكاتبة مهارات بعينها واعتبرتها ذات أولوية في تنشئة الأفراد على قيم المواطنة، انطلاقا من تجربتها الميدانية، وهذه المهارات هي:
– المهارات الذاتية التي تستهدف تقدير الذات وتطويرها؛
– مهارات التواصل وتدبير الوقت باعتبارهما مهارتين للتكيف؛
– المهارات الدراسية أو ما يسميها التربويون باستراتيجيات التعلم، والتي تدل في عمومها على أنماط السلوك وعمليات التفكير التي يستخدمها المتعلم، وتستهدف التأثير الإيجابي في تعلمه.
قد يجد القارئ الذي ألِف العلاقة الخطية بين عناوين الكتب ومحتوياتها صعوبة في ربط عنوان الكتاب بموضوعه، والحقيقة أن الكاتبة وإن لم تفكك عنوان الكتاب وتبين مشكلته وإشكاليته في مقدمته أو في فصل منهجي منفصل، وتحدد مضامينه في علاقتها بهذه الإشكالية، وهي طريقة تقليدية في الكتابة، إلا أنها تركت القارئ بحسه وذكائه لبناء هذه العلاقات والتوصل إلى استنتاجات في علاقة العنوان بمحاور الكتاب.
والعلاقة بين عنوان الكتاب “أبناؤنا بين الواقع والمأمول” وبين محوريه الرئيسيين أراها كما يلي:
فالواقع: هو ما حاولت الكاتبة تشخيصه من خلال استقرائه، ومستعينة باستمارات مغلقة بأسئلة دقيقة لقياس نسبة تربية فئة الأطفال والشباب على قيم المواطنة؛
أما المأمول: فهو رؤية الكاتبة الاستشرافية حول مواصفات هذه الفئة في مجال التربية على قيم المواطنة؛
وأما الأداة: فهي المهارات الحياتية الناعمة والصلبة؛
وأما الآلية المستخدمة لذلك: فهي مؤسسات التنشئة الاجتماعية، وبيان دورها في التربية على المواطنة الإيجابية والفاعلة بتوظيف الأداة السابقة.
ثانيا: من حيث المنهج:
وظفت الكاتبة في محاولتها ثلاثة مناهج للبحث: وهي المنهج الاستقرائي والمنهج الوصفي التحليلي والمنهج المقارن.
أما المنهج الاستقرائي فمن خلال تتبع المفاهيم المركزية في الكتاب في اللغة والاصطلاح، وكذلك من خلال تتبع بعض الشواهد من منقول النص القرآني والحديثي على بعض استنتاجات الكاتبة.
ووظفت المنهج الوصفي التحليل في وصف وتحليل سلوك فئات من الشباب في علاقته بقيم المواطنة، وفي تملكهم لبعض المهارات الحياتية.
كما وظفت المنهج المقارن لمقارنة سلوك هذه الفئات من الشباب بين عامي 2011 و2023.
وقد استعانت الكاتبة بعدد من الاستمارات كأداة لتوظيف المنهجين الأخيرين، وهي أداة مهمة في البحث السوسيولوجي.
والكتيّب عموما عبارة عن دليل عملي أغنته صاحبته بجداول ورسومات وخرائط ذهنية ليس على سبيل التأثيث، بل لتلخيص أفكاره وتقريب فهمه ولإغنائه بشكل عام.
خاتمة:
ليس لنا إلا أن نهنئ الكاتبة على هذه المحاولة، باعتبارها خطوة أولى في التأليف، ولتوفقها في اختيار الموضوع، ذلك أن التربية على المواطنة تبرز أهميتها اليوم في الحفاظ على الهوية وترسيخ قيم السلم الاجتماعي، والارتقاء بالفرد والمجتمع، من خلال تربية مواطنة تركز على القيم والمبادئ السامية والمهارات التي تمكنه من الاندماج الإيجابي في محيطه الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، والتفاعل مع هذا المحيط دون أن يؤثر ذلك سلبا على شخصيته. وهنا يبرز دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية في ترسيخ هذه القيم.
وإذا كانت القيم بشكل عام تعد قواعد كلية للسلوك الإنساني، توجه الفرد وتحدد منهجه في الحياة، والنسق القيمي في كليته هو بمثابة بنية متكاملة تحافظ على وحدة الجماعة، فإن قيم المواطنة تعد أصلا من أصول هذا النسق، فهي القوة المحافظة التي تصون المجتمع وتدفع عنه كل ما يهدد أمنه واستقراره. وتعتبر مرحلة التعليم المدرسي من أهم المراحل لغرس هذه القيم والمبادئ.
وفي الختام أقول:
إذا أردنا اقتراض مفاهيم من الفكر والأدب، وإسقاطها على صاحبة الكتاب، لاقترضت مفهوم المثقف الملتزم engagé intellectuel من جون بول سارتر أو المثقف العضوي L’intellectuel organique من غرامشي.
وهما بمعناهما العام ذلك المثقف الذي يمتلك من العلم والمعرفة ما يمثل حالة متقدمة في الوعي ضمن المجتمع الذي يعيش فيه، ويلتزم اجتماعيا بقضايا أمته، ويؤثر فيها ويتأثر بها، ويرتبط ارتباطا عضويا بطبقته الاجتماعية، فينخرط انخراطا كليا في أداء وظيفته، أو “بقوة” بالمفهوم القرآني في إشارة إلى قوله عز وجل مخاطبا سيدنا يحيى عليه السلام “يا يحيى خذ الكتاب بقوة”، وهو على حد تعبير الفيلسوف والروائي الفرنسي Julien Benda، في كتابه خيانة المثقفين La Trahison des clercs “ضمير البشرية”، ولنقل ضمير المجتمع في حدوده الضيقة.
والكاتبة تجسد مثالا واقعيا للالتزام والعضوية في مجال التربية، فهي بالإضافة إلى كونها متمكنة معرفيا من مجال تخصصها وملمة منهجيا بآليات أداء وظيفتها، فهي تحمل هم قضايا التربية والتكوين، وسعت طيلة سنوات عملها إلى تجسيد تلك المعرفة عمليا مع تلاميذها، ولا أدل على ذلك من هذا الكتيّب الذي يعد نتاج تجربة ميدانية حافلة بالعطاء.

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافق المزيد