مدونة الأسرة: الخاسرون الكبار في معركة التقاطبات

يوسف بن عبو

يوسف بن عبو
كتب المسرحي النرويجي هنريك إبسن مسرحيته “الأشباح” نهاية القرن التاسع عشر، ليسلط الضوء على فساد المجتمع الذي يتجلى في النفاق الاجتماعي والسلطة الدينية والحرية المفرطة، وكذلك عالج حقوق المرأة والأطفال والحريات الفردية وصراع الحقيقة والمظاهر الاجتماعية.
أظهر إبسن المرأة ككائن يجب أن يتحمل تبعات زواج فاسد من رجل يمارس حريته بلا قيود، من أجل الحفاظ على هيكل الأسرة كما يريده رجل الدين، الذي يولي أهمية للمظاهر على الحقيقة.
كانت نتيجة هذا الزواج، الذي يحاول الجمع بين المتناقضات بين التدين الشكلي والحرية المفرطة، طفلة غير شرعية تعمل كخادمة في بيت أبيها وتعيش وضعا اجتماعيا واقتصاديا قاسيا.
كما تظهر أطفال شرعيون مرضى نفسيا وجسديا بسبب انتقال أمراض والدهم إليهم، ويتحملون ماضي لا مسؤولية لهم فيه.
ويقول إبسن على لسان أحد شخوص المسرحية: “إنه لأمر مروع أن يجبر المرء على تحمل خطايا والديه، من دون أن يكون له مسؤولية ولا ذنب فيها”.
ها نحن نستدعي إبداع القرن التاسع عشر لنسقطه على واقع المجتمع المغربي المعاصر، من أجل الفهم في ظل نقاش محتدم حول مدونة الأسرة.
في ظل معركة تكسير العظام القائمة حول المدونة بين المحافظين الذين يحاولون الحفاظ على الهيكل بشكله الماضي، بما يحمله من اختلالات وقهر اجتماعي وأمراض نفسية واجتماعية يتم توريثها وإعادة إنتاجها في الأجيال المستقبلية.
نتيجة لذلك، يعيش الآلاف داخل العلاقات الأسرية طلاقا عاطفيا، لا يجمعهم إلا الحد الأدنى من الالتزامات الضرورية، حفاظا على الهيكل ولو أن الصدأ قد تمكن منه كليا.
كما تعاني نساء وأطفال داخل مثل هذه العلاقات من العنف الأسري بجميع أشكاله، لكن لا طاقة لهم في مواجهته أمام مجتمع يقر بالادانة المسبقة للمرأة في أول بوح أو صرخة تنديد بوضعها.
يغيب الامساك بالمعروف، وفي لحظات التسريح لا يحضر الاحسان. أطفال يمتنع أباؤهم عن أداء النفقة الواجبة عليهم، ينتظرون حتى تتراكم فاتورة ديون النفقة ويطالبون بأداء قيمتها بحريتهم أيام أو أشهرا حبسية معدودة.
ليس لأنهم معدومون ماديا، بل لأن القرار منذ البداية كان لن تأخذ الطليقة درهما واحدا، معلنا الطلاق ليس من زوجه فقط، بل من أبنائه أيضا.
نتيجة لتقديس الزواج أكثر من مصلحة أطرافه، يصبح لدينا زوجان وأطفالهم معتقلون جميعهم في علاقة ميتة سريريا، تجنبا لأبغض الحلال وتخوفا من أحكام المجتمع ما بعد الانفصال، أو خيار أن يحدث الطلاق ويرمى بالمرأة والأطفال إلى حضن مجتمع يمارس عنفا رمزيا وينظر بدونية إلى المرأة المطلقة.
وإن كان المجتمع يتساهل مع زواج المطلق الرجل، فإنه لا يتقبل إطلاقا زواج المرأة المطلقة، خصوصا إن كانت حاضنة. كما أن المطلقة يزداد حظها في العنف المجتمعي، الذي يتخذ أشكالا عديدة أهمها التحرش، فتصبح مرغوب فيها لليلة أو لشهر، لكن دون أن تكون لدى الطرف الآخر نية تحويل العلاقة معها إلى زواج، إلا في حالات الاستثناء.
أما أطفالها فهم محرمون من حضن كلا الأبوين ومن دعمهم المادي والنفسي والعاطفي والتربوي. في عمر صغير، عمر الهشاشة النفسية الاجتماعية، يكون الطفل في أمس الحاجة إلى والديه.
النتيجة تكون أطفالا بتربية مشوهة واختلالات نفسية عميقة لأن أحد الفاعلين فيها غائب والأخر مغيب بسبب تحمله عبء الرعاية ومحاولات الدفاع المستمرة أمام المجتمع عن براءته من هدم الهيكل.
وبين تيار الحداثة الذي يمثله الليبراليون واليساريون وفعالياتهم الحزبية السياسية والجمعوية، بما فيها الجمعيات النسوية، التي تحاول أن تزرع فكرة الحرية المطلقة غير المقيدة في نظام أسري أسسه ومنطقه ومنطلقه الأصلي تقليدي محض مبني على الحفاظ على الهيكل والطقوس المرتبطة به.
فنجد هذه التيارات تركز كل اهتمامها على البعد المالي المادي في علاقة مبنية في جزء منها على البعد المالي، لكن ليس هو الكل، كون العلاقة الزوجية رابطة إنسانية محضة والجزء الأكبر من نجاحها مؤسس على ما هو عاطفي، إنساني، نفسي.
فالاحترام المتبادل بين الزوجين، وكذلك الثقة وحسن التدبير والتفهم وامتلاك أساليب التربية السليمة وغيرها من المهارات، لا يمكن اقتناؤها من محل تجاري بمقابل مادي.
كما أن رفع سقف الحرية لتبلغ مستوى الحرية غير المقيدة بضوابط أخلاقية وقانونية ذات علاقة بحفظ كرامة الزوجين، يمكنه أن يلحق ضررا نفسيا وجسديًا بكلا طرفي العلاقة ويجعل الاستعداد للانفصال خيارا مقدما دائما على خيارات التعاقد والتقبل والحوار.
ويضرب مفهوم الأسرة المستدامة القادرة على تقديم تنشئة اجتماعية سليمة للأطفال في عمقها، وإن كان الزوجين والأطفال هم أوليا من يتحملون التبعات، فان المجتمع لاحقا هو من سيؤدي التكلفة من رصيده التنموي وفرص تقدمه بعد أن يفقد أحد أول وأهم مختبرات تكوين الإنسان.
الملاحظ دائما في هذا النقاش هو غياب انخراط عنصر أساسي من الفاعلين، هم فئة الباحثين في العلوم الاجتماعية والنفسية، وبالضبط الباحثون في حقول علم الاجتماع وعلم النفس وعلم النفس الاجتماعي، وكذلك فئة المهنين من الأخصائيين والأطباء النفسانيين والمساعدين الاجتماعيين.
فالبرغم من أن الجامعات المغربية تتوفر على مختبرات للأبحاث الاجتماعية والنفسية، إلا أن غيابها عن نقاش المدونة يبدو واضحا، مع أن الأسرة وموضوعاتها والظواهر المرتبطة بها ليست حكرا على رجالات القانون ورجالات الشريعة والدين، بل هي أيضا موضوع عمل للعلوم الاجتماعية والنفسية.
الضرورة تقتضي حضورهم في المشهد لتسليط الضوء على الظواهر الاجتماعية المرتبطة بالأسرة وتقديم أبحاثهم العلمية في كل الإصلاحات المقدمة، قصد رفع منسوب الوعي المجتمعي من جهة وتوفير أرضية علمية يبني عليها أصحاب القرار اختياراتهم.
كما أن حضورهم ضروري لطرح الأسئلة المزعجة التي سبق للمجتمعات المتحضرة طرحها في مثل هذه المناسبات، من قبيل ما الأهم، رفاهية الأفراد وحريتهم أم الحفاظ على نظام أسري بقيمه ونظامه الموروث بما يحمله من إيجابيات وسلبيات؟ ومن قبيل أيضا، هل الدولة ستنكب على معالجة الأسرة نفسها كاشكالية أم ستواصل العمل على معالجة الظواهر الاجتماعية التي تتمخض عن مؤسسة الأسرة؟ وغيرها من الأسئلة التي ينبغي وضعها على طاولة المجتمع والانتصار فيها لا للأيديولوجيات المتقاتلة بل للمصلحة المجتمعية أولا ومصلحة أجيالها الحالية والمستقبلية ثانيا ورفاهية الأفراد داخل مؤسسة الأسرة ختاما.
يوسف بن عبو، باحث في شؤون الطفولة والأسرة

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافق المزيد