فضيحة التحول الرقمي في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي: 53 مليون درهم وضياع الثقة بين الأعطال وتسريب البيانات

هبة زووم – الرباط
في زمن تُعتبر فيه الرقمنة أحد الركائز الأساسية لتحديث الإدارة العمومية وتحسين جودة الخدمات، يبدو أن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (CNSS) يقبع في دوامة فشل متكررة تتناقض مع التوجهات العالمية والرغبة الوطنية في تحديث الخدمات العمومية.
صفقة رقمية ضخمة بقيمة 53 مليون درهم، أُبرمت نهاية 2024 بغرض تطوير منصة وتطبيق إلكتروني للضمان الاجتماعي، كانت بمثابة وعد بالتحول الرقمي الحقيقي، إلا أن الواقع أظهر فجوات عميقة وأخطاء جسيمة تثير علامات استفهام حول إدارة هذا المشروع.
الأعطال التقنية المتكررة: أزمة الثقة والتواصل
منذ إطلاق المنصة الرقمية، يعاني مستخدمو CNSS من أعطال تقنية متكررة تتراوح بين توقف الخدمات، تعقيد واجهة الاستخدام، صعوبة رفع الوثائق، وتأخير الاستجابة.
هذه المشاكل لم تكن مجرد عوائق فنية عابرة، بل تحولت إلى أزمات حقيقية تعطل مصالح آلاف المواطنين والموظفين على حد سواء.
كيف لمنصة تحمي ملايين المستفيدين أن تعجز عن توفير خدمة رقمية مستقرة؟ السؤال يتجاوز التقنية إلى جوهر إدارة المشروع، حيث نلحظ افتقاراً واضحاً للتخطيط الاستراتيجي ولمعايير الجودة.
هذه الأعطال ليست مجرد تفاصيل فنية، بل هي مظهر واضح لفشل في تلبية متطلبات التحول الرقمي الحقيقية التي يجب أن تركز على المستخدم والعملية لا على إطلاق منتج شكلي لا يرقى إلى مستوى الاحتياجات.
في النهاية، المواطن هو المتضرر الأول، ويجد نفسه محاصراً بين صعوبة الإنجاز الرقمي وإجراءات ورقية تعود إلى الماضي.
تسريب البيانات الشخصية: انتهاك خطير لقانون حماية المعطيات
الأمر لا يقتصر على المشاكل التقنية فقط، بل بلغ الأمر حد فضيحة أمنية تمثلت في تسريب بيانات شخصية وحساسة لمئات أو آلاف المشتركين، ما يشكل خرقًا صارخًا لقانون حماية المعطيات الشخصية، ويكشف هشاشة كبيرة في منظومة أمن المعلومات داخل الصندوق.
هذه الحادثة لم تُرافقها حتى الآن شفافية إعلامية واضحة، ولم يصدر أي توضيح رسمي أو تحرك قانوني في اتجاه محاسبة المسؤولين.
وفي ظل هذا الغموض، يزداد قلق المواطنات والمواطنين، خصوصاً أن هذه البيانات قد تُستخدم لأغراض مشبوهة تهدد الخصوصية والحقوق الرقمية.
إن حماية بيانات المواطنين يجب أن تكون من أولويات أي مشروع رقمي، لا أن تتحول إلى نقطة ضعف تعرض المؤسسة والمستخدمين لمخاطر جسيمة.
غياب مؤشرات الأداء والرقابة الفعالة: كيف أنفقت 53 مليون درهم بلا نتائج؟
صفقة بهذا الحجم المالي (53 مليون درهم) كان من المفترض أن تخضع لمؤشرات أداء دقيقة، لجان متابعة مستقلة، وتقييم مستمر يضمن شفافية التنفيذ وجودة النتائج.
لكن، وفق المعطيات المتوفرة، يبدو أن هذه الشروط لم تُطبق أو كانت ضعيفة، مما ساهم في تضخيم الخلل وتفشي العشوائية.
غياب المعايير الدقيقة للنجاح وغياب المساءلة عن الأخطاء، يعني أن المشروع يتحول إلى “صندوق أسود” تُصرف فيه أموال كبيرة بلا تحقيق الأهداف المرسومة. كيف يمكن لمنصة حيوية أن تخرج بهذا المستوى من الهشاشة والتقصير؟
هذه الحالة تطرح تساؤلات حول مدى نضج المنظومة الإدارية في تسيير المشاريع الرقمية بالمؤسسات العمومية، وأهمية مراجعة منهجيات الإسناد والمتابعة.
هل يكمن الفشل في المنهجية أم في المسؤوليات؟
من الصعب فصل أزمة CNSS الرقمية عن الإطار العام الذي تُدار فيه مشاريع التحول الرقمي في القطاع العام بالمغرب.
كثير من هذه المشاريع تُدار بمنطق الصفقات الكبرى دون استحضار كافٍ لخصوصيات التقنية الرقمية، والتي تتطلب استثمارًا في العنصر البشري المؤهل، إدارة تغيير فعالة، تكاملًا مع الأنظمة القديمة، وضمانا مستداما للأمن الرقمي.
علاوة على ذلك، غياب ثقافة المحاسبة والمساءلة في مثل هذه المشاريع يُغذي استمرارية الإخفاقات. فلا يكفي أن تُنفذ الصفقة على الورق، بل يجب أن يتحمل المسؤولون عن ضعف التنفيذ عواقب أفعالهم، وهذا ما لا يبدو جليًا حتى الآن في حالة CNSS.
تداعيات الفشل: المواطن والخطر المستقبلي
ما يجري في CNSS اليوم لا يقتصر أثره على المستخدمين المباشرين فقط، بل يمتد ليشمل الثقة العامة في المؤسسات العمومية، وفي التوجه الوطني نحو الرقمنة.
الفشل في توفير منصة موثوقة وحماية البيانات يقوضان الأساس الذي يُبنى عليه التحول الرقمي، ويؤديان إلى عزوف المواطنين عن استخدام الخدمات الرقمية، وهو ما يضطر الإدارة إلى العودة إلى الطرق التقليدية المكلفة والأقل فاعلية.
فضلاً عن ذلك، فإن تسرب البيانات قد يُحدث أضرارًا قانونية ومالية جسيمة على المستوى الفردي والجماعي، وهو ما قد يعرض المؤسسة لمطالب تعويضات وعقوبات، بالإضافة إلى التأثير السلبي على سمعتها.
نداء للمسؤولية وإعادة الاعتبار
تجربة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في مجال التحول الرقمي تُظهر أن التحديات التي تواجهها ليست فقط تقنية، بل إدارية، تنظيمية، وأخلاقية.
نجاح الرقمنة لا يتحقق بمجرد ضخ الملايين أو إطلاق تطبيقات جديدة، بل يتطلب استراتيجية متكاملة، إشرافًا صارمًا، والتزامًا حقيقيًا بحماية حقوق المواطن.
على الجهات المعنية أن تتحمل مسؤولياتها، وأن تفتح تحقيقًا شفافًا يفضح مكامن الخلل، ويضمن محاسبة كل من تقاعس أو أخل بواجباته.
كما يجب إعادة النظر في منهجية إدارة المشاريع الرقمية لتصبح أكثر احترافية وملائمة لخصوصيات هذا المجال الحيوي.
المواطن المغربي يستحق خدمات رقمية تحترم وقته، بياناته، وحقوقه. وبدون ذلك، ستظل عبارة “التحول الرقمي” مجرد شعار بعيد عن الواقع، و53 مليون درهم مجرد فاتورة باهظة من دون مردود حقيقي.

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافق المزيد