ورقة تُرعب السلطة أو عندما يصبح “وصل التسليم” تهديداً إدارياً

محمد أمين وشن – الرباط
“السلطة التي لا تُحاسَب ، تتحول إلى عنف صامت”، هكذا كتب ميشال فوكو في نقده للسلطة والمؤسسات.
وفي المغرب، لا تزال العلاقة بين المواطن والإدارة محكومة بميزان مختل، يَميل فيه الكف لصالح مؤسسة تحتفظ لنفسها بسلطة القبول والرفض، وغالباً دون أثر مكتوب.
ورغم ما ينص عليه الدستور من ضمانات في الشفافية والحق في المعلومة والمساواة أمام المرافق العمومية، فإن الواقع يُكذب النصوص، خاصة حين يتعلق الأمر بوثيقة بسيطة تُدعى “وصل التسليم”.
هو إجراء إداري يُفترض أنه روتيني، مجرد تأكيد كتابي على توصل الإدارة بطلب أو شكاية أو مراسلة، لكنه في الممارسة اليومية يتحول إلى عُقدة إداراتية، ترفض بعض القيادات والباشويات تسليمه، وكأن الأمر يتعلق بسرٍ من أسرار الدولة.
المواطن حين يضع مراسلته، يُقابل بجملة مستفزة ومتكررة: “ما كاين لا وصل لا والو… غادي يشوفها الشاف”. هكذا، تُبتلع الورقة، ويُمحى الأثر، وتُقبر المطالبة قبل أن تُناقش.
ليست هذه واقعة معزولة أو سوء فهم إداري، بل سلوك ممنهج يعكس مقاومة بيروقراطية لفكرة التوثيق والمساءلة. ذلك أن “وصل التسليم”، رغم بساطته، يحوّل العلاقة بين المواطن والسلطة من علاقة خاضعة إلى علاقة موثقة، من تواصل شفهي عائم إلى التزام قانوني مكتوب، ومن قرار أحادي إلى حوار مؤسساتي.
ولعل هذا ما تخشاه بعض الإدارات: أن تتحول من سلطة فوقية إلى جهة مطالَبة بالرد، وخاضعة للآجال والطعن القضائي.
القانون المغربي واضح وصارم في هذا الباب. فالمادة السابعة من القانون 55.19 المتعلق بتبسيط المساطر الإدارية تُلزم الإدارة، دون استثناء، بتسليم وصل لكل طلب أو شكاية، سواء تم الإيداع حضورياً أو إلكترونياً.
كما ينص القانون 41.90 المنظِّم لعمل المحاكم الإدارية، على أن سكوت الإدارة يُعدّ رفضاً ضمنياً قابلاً للطعن خلال أجل 60 يوماً، لكن كيف يمكن للمواطن أن يطعن في قرار لم يُبلَّغ به، ولا يملك حتى ما يثبت أنه سلّم مراسلته في الأصل؟
هنا تحديداً يكمن الخلل الجسيم: غياب وصل التسليم هو في الواقع إعدام للحق في التقاضي، وتعطيل صريح للعدالة الإدارية. إنه خرق مزدوج للدستور والقانون، وانتهاك صامت يتوارى خلف الابتسامات الإدارية أو الوعود الشفهية.
السلطة التي لا تُوثق، لا تُسائل. والإدارة التي لا تكتب اسمها وتاريخها على ورقة، هي إدارة ترفض الاعتراف بعلاقة قانونية مع المواطن.
المؤسف أن هذا السلوك الإداري يُعيدنا، بشكل مقنّع، إلى ما قبل زمن دولة المؤسسات، إلى زمن القائد الذي لا يُسأل، والباشا الذي لا يُراسل، والسلطة التي لا تعترف بأثر.
ومما يزيد الطين بلة، أن هذا الخرق لا يُناقش في النقاش العمومي ولا يُدرج في مطالب الإصلاح، وكأن الأمر مجرد تفصيل تقني، بينما هو في الواقع لبّ العلاقة بين المواطن والدولة.
إن معركة “وصل التسليم” ليست معركة موظف يرفض توقيع ورقة، بل معركة مواطن يريد أن يُثبت حقه في الاحتجاج والمطالبة والتقاضي، إنها معركة من أجل الشفافية، ومن أجل توازن القوى بين الفرد والمؤسسة.
والمفارقة الكبرى أن الدولة التي تتحدث عن التحول الرقمي والحكامة الجيدة، ما تزال عاجزة أو ممتنعة عن ضمان أبسط آلية للتوثيق: ورقة مختومة تحمل توقيعاً وتاريخاً.
فهل يُعقل أن نُطالب بسياسات عمومية عادلة، بينما نحن عاجزون عن انتزاع إثبات إداري على مراسلة بسيطة؟ وهل نبني الثقة بين المواطن والدولة عبر الوعود الكبرى، بينما تنهار هذه الثقة في تفاصيل يومية تُمارَس خلف أبواب الإدارات؟
إن “وصل التسليم” ليس مجرّد ورقة. إنه اعتراف ضمني بمواطنتك. والإدارة التي تتهرب من توقيعه، لا تخافك أنت، بل تخاف من التزامها تجاهك.

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافق المزيد