الملك محمد السادس: إفريقيا تحتاج لتمويل سيادي يليق بطموحاتها لا صدقات مشروطة

هبة زووم – الرباط
في نداء استراتيجي مشحون برؤية تنموية شاملة، وجه الملك محمد السادس رسالة قوية للمشاركين في ملتقى إبراهيم حول الحكامة، الذي انطلقت أشغاله بمراكش، حاثًّا فيها على إصلاح عميق وجريء لنموذج تمويل التنمية في القارة الإفريقية، مؤكداً أن تعبئة الموارد ليست ترفاً تنموياً بل رهان وجودي.
الرسالة الملكية، التي تلاها مستشاره أندري أزولاي، شكّلت خارطة طريق لمستقبل إفريقيا الاقتصادي، وأعلنت بوضوح أن القارة لن تنجح في إصلاحاتها ولا مشاريعها ما لم تخرج من دائرة التمويلات التقليدية المشروطة، وتؤسس لسيادة مالية تؤهلها لتملك مصيرها بنفسها.
الملك حدد بوضوح أربعة محاور مركزية يجب أن تؤطر أي مسار تنموي إفريقي جاد: تغيير النموذج التمويلي للتنمية، إرساء بيئة مؤسساتية اقتصادية واجتماعية محفزة، تفعيل التكامل التجاري بين دول القارة وتحويل الثروات الطبيعية من مجرد صادرات خام إلى قاطرة تصنيعية.
وهي دعائم لا يمكن الفصل بينها، لأنها تشكل معًا نواة استقلال القرار الاقتصادي والسياسي لإفريقيا، وتقطع مع منطق التبعية البنيوية للتمويل الخارجي.
الرسالة الملكية نبهت إلى أن الاستمرار في الاعتماد على التمويلات الخارجية والديون لم يعد مقبولاً في ظل الظرفية العالمية الراهنة، داعية إلى تعبئة داخلية للموارد، واعتماد أدوات مالية مبتكرة، مع استثمار فعّال لتحويلات الجاليات الإفريقية، التي تُعتبر اليوم رأسمالاً معطّلاً لم يُحسن توجيهه.
كما طالبت الرسالة بتجاوز منطق المساعدات، معتبرة أن إفريقيا تحتاج إلى شراكات عادلة، لا إلى صدقات مشروطة، وإلى تمويلات منصفة تُراعي التحديات الواقعية للدول الإفريقية في سوق مالية دولية تتسم بعدم التكافؤ.
وفي شق آخر، دعت الرسالة الملكية إلى تسريع الإصلاحات المؤسساتية، وتكريس حكامة رشيدة، وإطلاق دينامية قوية لتبسيط المساطر، وتعزيز الشفافية، وتوفير الأمن القانوني للمستثمرين، معتبرة أن خلق مناخ أعمال جذاب هو مفتاح الاستثمار المنتج والمستدام، وشرط لتفجير طاقات المقاولة والإبداع المحلي.
كما شددت على ضرورة تخليق الحياة الاقتصادية ومواجهة الفساد الذي يُعتبر من أكبر معيقات التنمية والعدالة الاقتصادية في كثير من دول القارة.
وذكر الملك بأن نسبة المبادلات التجارية البينية الإفريقية لا تتعدى 16%، مقابل 60% بأوروبا و50% بآسيا، في مؤشّر صارخ على غياب اندماج اقتصادي حقيقي، رغم توفر كل شروطه الجغرافية والبشرية واللوجستيكية.
وأكد أن تفعيل منطقة التبادل الحر القارية الإفريقية يشكل اليوم “نافذة استراتيجية” لتجاوز هذه الهوة، وتحويل إفريقيا إلى كتلة اقتصادية مندمجة تستطيع فرض شروطها في النظام التجاري الدولي، خصوصًا في ظل التوترات الجيوسياسية والتحولات في سلاسل التوريد.
وبلغة صريحة، قال الملك إن إفريقيا، وهي تتوفر على 40% من الاحتياطيات العالمية للمواد الأولية و30% من المعادن الاستراتيجية، لا يمكن أن تظل “خزانًا خامًا” لتغذية مصانع الشمال، بينما يظل أبناؤها رهائن الفقر والبطالة والهشاشة.
ودعا إلى إطلاق ثورة صناعية محلية تتيح تحويل هذه الثروات محليًا، وتخلق فرص عمل، وتحقق قيمة مضافة، وتوفر مداخيل حقيقية للدول، بدل استمرار “نزيف التصدير الخام”.
الرسالة الملكية طالبت بوضوح بـإصلاح شامل للنظام المالي العالمي، يكون أكثر عدالة وتمثيلية، ويضمن انخراطًا فعليًا للدول الإفريقية في صياغة قواعده.
كما شدد جلالته على أن مؤسسات التمويل الإقليمية يجب أن تعزز قدراتها، وأن تُخفض الفوائد المفروضة على القارة في الأسواق المالية، مع ضرورة خفض رسوم تحويلات الجاليات، باعتبارها موردًا حيويًا لم يتم استغلاله بالشكل الأمثل.
وفي ختام الرسالة، وجّه الملك محمد السادس دعوة إلى الضمير العالمي قائلاً “صار من اللازم، الآن وليس غدًا، إدراج تمويل تنمية إفريقيا في صلب الأجندة الدولية”.
وأضاف أن المؤتمر الدولي المقبل حول تمويل التنمية المزمع عقده بإشبيلية يمثل محطة مفصلية ينبغي أن تُخرج القارة من موقع المتفرج، إلى فاعل مفاوض ومؤثر في السياسات المالية الدولية.

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافق المزيد