لماذا خلق الله الشر؟

هبة زووم ـ ليلى البصري
لماذا خلق الله الشر و الفقر و المعاناة و الحروب و الأمراض و غير ذلك من الشرور؟ لماذا يٰقتل الأطفال في سورية؟ لماذا يموت الأطفال جوعا في افريقيا؟

 أليس الله هو أرحم الراحمين؟ فكيف يمتلئ الكون بكل هذه المآسي؟
أسئلة و متناقضات أرهقت ارواحنا و أقلقت مضاجعنا، و تمنينا لو أمكن لنا فهمها لنرتاح، بل ان الكثير منا ألحد بسببها مع أن الرد عليها قد حدث فعلا قبل ثلاثة و ثلاثين قرنا من الان، و اخبرنا بها القران الكريم في سورة الكهف، منذ أزيد من الف و أربع مائة سنة!…

يقول الحق سبحانه و تعالى في سورة يوسف: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)}

لا يَحسَبنّ أياً منا، مهما بلغت درجته من العلم، أنه الأعلم و الأفضل، فسيدنا موسى عليه السلام، قبل ثلاثة و ثلاثين قرناً، و لكونه فضَّله الله بالرسالة، ظن أنه أعلم أهل الأرض؛ و حين خطب في بني إسرائيل و سأله أحدهم عن أعلم الناس، أجاب ذلك السائلَ بقوله: أنا. و قد كان الأجدر به أن يقول: ” الله أعلم ” ، لأن مبلغ علم الرسل و الأنبياء لا يبلغ أن يحيط بكل شيءٍ، فالإحاطة بالعلم كله من صفات الله عز و جل وحده لا شريك له، فأراد الله أن يبين لموسى عليه السلام أن فوق كل ذي علم عليم، و أن هناك مِن العباد مَن هو أعلم منه، لذلك أمره أن يسير إلى مكان معين يلتقي فيه مع ذلك العبد العالم…

عن أبي بن كعب رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَسُئِل: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ . فَقَالَ : أَنَا . فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ).

ذلك العبد العالم، الذي ظلمته الأدبيات الإسلامية، و سطحت مفهومه و اختزلته في شخصية وليّ من أولياء الله: الخضر عليه السلام، الذي يمثل يد الله التي تغير أقدار الناس لطفاً بهم… لطف الله الخفي… و الممتع أن هذا اللطف رحيم، عليم، يتكلم… و يمشي على قدمين: { عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ﴿65﴾} (الكهف) و سنقرأ حوارا بين نبي، لديه نفس فضولنا و تساؤلاتنا… و بين لطف الله الخفي، الرحيم العالم المتكلم… و لنتدبر هذا الحوار:
 
يقول سيدنا موسى عليه السلام: { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ﴿66﴾} الكهف
يرد الخضر عليه السلام:
{ قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴿67﴾ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ﴿68﴾ } الكهف
جواب منطقي جدا، فلله ألطاف لا يمكن للعقل البشري ان يدركها، و بالتالي لا نستطيع صبرا على ما نراه من تناقضات مزعجة…

 فيرد  موسى عليه السلام مبديا استعداده التام لارضاء فضوله: { سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ﴿69﴾}
 و يشترط الخضر:  { فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ﴿70﴾}

و يمضي الرجلان، ثم يركبان في سفينة لمساكين يعملون في البحر، فيقوم الخضر بخرقها، و مما يتضح أن أصحاب المركب سيعانون كثيرا من فعلة الخضر، فذلك واضح من سؤال سيدنا موسى و استنكاره لهذه الفعلة الشنعاء لأن موسى تساءل بقوة عن هذا الشر كما نتساءل نحن… و قال معاتباً و ربما ساخطاً: { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ﴿71﴾} يسكت الخضر و يمضي..

رغم ان موسى عليه السلام كان  لا يزال في حيرته، لكنه يسير مع الرجل (لطف الله الخفي) الذي يؤكد لموسى: { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴿72﴾}

 يمضي الرجلان، و يقوم الخضر الذي وصفه الله بالرحمة و العلم بقتل غلام ثم يمضي فيغضب موسى عليه السلام  و يعاتبه بلهجة أشد: { أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا ﴿74﴾}
تحول إلى نُّكْرً بعد ان كان  إِمْرًا
و الكلام صادر عن نبي أوحي إليه، لكنه بشر مثلنا، و يعيش نفس حيرتنا! يؤكد له الخضر مرة أخرى:
 { أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا ﴿75﴾}

ثم يصل موسى و الخضر إلى القرية… فيبني الجدار ليحمي كنز اليتامى!  هل اليتامى أبناء الرجل الصالح عرفوا أن لهم كنزا تحت الجدار و أن الجدار كان سيهدم؟ قطعا لا.. هل عرفوا أن الله أرسل لهم من يبنيه؟ لا.. هل شاهدوا لطف الله الخفي؟.. لا.. هل فهم موسى السر من وراء بناء الجدار؟ لا…

ثم مضى الخضر حيث لا يعلم أحد… لطف الله الخفي، الرحيم، العالم، المتكلم.. مضى بعد أن شرح لموسى و لنا جميعا كيف يعمل القدر و الذي يمكن تلخيصه بكل بساطة كالآتي:

أن الشر شيء نسبي… و بما اننا، كبشر، لا نرى الصورة كاملة بأبعادها الممكنة،  فبالتالي يضل مفهوم الشر لدينا، مفهوما قاصراً و محدوداً جدّاً، فكم من شر تراه فتحسبه شرّاً ثم يكشف لك الله في النهاية أنه خير، و قد لا يكشف الله لك ذلك فتعيش عمرك و أنت تعتقد أنه شر!

أصحاب السفينة:

من المؤكد أن أصحاب السفينة عانوا أشد المعاناة و تعطلت مصلحتهم و شل باب رزقهم، لكن ما لبثوا أن عرفوا بعد ذهاب الخضر و مجىء الملك الظالم أن خرق القارب كان شرا مفيدا لهم، فالملك لم يأخذ القارب غصبا لأنه معطوب… و إصلاح قارب معطوب أهون و أفضل لهم من فقده… { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) }

قتل الغلام:

و قتل الغلام! لا محالة أنه شر، لكنه يخفي بين طياته خيراً كثيرا! فالخضر فعل ما فعل بالغلام لأنه كان سيكون عاقا لوالديه { وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) }، فجهل الأم  بكيفية تدبير ربها للأمور، جعل قلبها ينفطر حزنا على هذا الغلام الذي حملته بين أحشائها وَهْناً على وَهْن، ربته سنينا في حجرها ليأتي رجل غريب يقتله و يمضي… كما تجهل أن الطفل الثاني كان تعويضا عن  الأول الذي  كان سيرهقهما طغياناً و كفراً…

كما ان هناك شر يصرفه الله عنك دون أن تدري بلطفه الخفي على شكل خير يسوقه إليك، مثل بناء الجدار لأيتام الرجل الصالح..

زبدة الكلام إذن، أننا لن نستطيع فهم أقدار الله و كيفية تدبيره للأمور و لطفه بِنَا، فالصورة أكبر كثيراً من عقولنا الميكروسكوبية، قد نحيا و نموت و نحن على يقين اننا تعرضنا الى ظلم في جزئية معينة، لكن الحقيقة هي غير ذلك تماما.

الحديث في هذا الموضوع طويل جداً، لكن يكفينا كمسلمين، أن نعي جيدا معنى حديث رسولنا الكريمﷺ:

عَنْ أبي يَحْيَى صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ. رواه مسلم.

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافق المزيد